من الواضح بادئ ذي بدء أن الاجتهاد لابد أن يكون من فقيه مؤهل له مقدرات عالية علمية وعقلية وسلوكية، تمكنه من القيام بجهد علمي مرموق لاستكشاف الحقيقة، مثله في ذلك مثل كل خبير في فن من الفنون أو علم من العلوم، لا يمكن أن يأتي بالجديد فيها من اختراعات واكتشافات إلا من كان عالمًا جامعًا حاذقًا ماهرًا. وقد تحدثت كتب الأصول عن مؤهلات المجتهد بين موسع ومضيق (?)، إلا أنه من غير المقبول ولا المعقول أن يتطفل على الاجتهاد دخلاء ليس لهم من العلم الشرعي إلا النزر اليسير، يتجرأ أحدهم على الفتيا في أعقد المسائل الشرعية، وهو لا يحسن إعراب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.

ثم إن الاجتهاد لا يكون إلا بدليل شرعي معتبر، وفي ذلك يقول الإمام الشافعي -رحمه الله-: "وليس لأحد أبدًا أن يقول في شيء: حلّ أو حرم، إلا من جهة العلم. وجهة العلم الخبر في كتاب الله أو السُّنَّة أو الإجماع أو القياس" (?). ولا يجوز لأيِّ مجتهد أن يقول بغير علم أو استناد إلى أدلة، وقد نقل الإمام ابن عبد البرّ إجماع الأئمة على ذلك فقال: "الاجتهاد لا يكونُ إلا على أصول يُضاف إليها التحليل والتحريم، وأنه لا يجتهد إلا عالمٌ بها، ومن أشكل عليه شيءٌ لزمه الوقوف ولم يجز له أن يحيل على الله قولًا في دينه لا نظير له من أصل ولا هو في معنى الأصل، وهو الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا فتدبره" (?). واعتمادًا على هذا فلا ينبغي أن يقبل أي اجتهاد يخالف نصًا في القرآن أو السُّنَّة، أو يخالف مقاصد الشريعة العامة.

ولابد للاجتهاد من التفرقة بين الثوابت الدائمة والمتغيرات، فتغير الفتوى والأحكام له أسباب كثيرة أوضحها الفقهاء في مواضع كثيرة، منها ما أشار إليه الإمام ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين في فصل جعل عنوانه: "فصل في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد" (?)، ولكن تلك المتغيرات كلها تقع تحت تغير المصالح والأعراف، وهو ما يمكن أن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015