وثمت أشياء صالحة في بعض الأحوال دون بعض، فقد تصلح لظرفٍ ولا تصلح لآخر، وقد تصلح للفقر، ولا تصلح للغنى، وقد تصلح للأمن، ولا تصلح للخوف، وقد تصلح للجهل، ولا تصلح للعلم. وهذا باب يطول استقصاؤه، ومثاله أنماط الكرم التي يقدمها الناس، فتختلف من حالٍ إلى حال، وقد يكون الكرم في الماضي لهُ تعبير وفي الحاضر لهُ تعبير آخر مختلف.

ومن العادات والأعراف ما هو سيئ، وربما يكون منابذاً للشريعة، لكن يحتاج في الخلاص منه إلى نوع من الحصافة والحنكة والوعي؛ لئلا يتحول تغييره إلى مشكلةٍ أكبر، أو يكون تغييره سبباً في ترسيخه وتدعيمه، وعادة ما تكون الانقلابات غير المدروسة سبباً في نتائج عكسية.

ومن العادات والتقاليد وهو الأكثر ما يكون مزيجاً من هذا وذاك، وقد يصعب على كثيرين تمييزه، واستخلاص جيده من رديئه ومثاله قضية النسب، فالنسب من حيث ثبوته سبب في صلة الرحم ومعرفة الأقارب والتوارث والتواصل إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية، لكن هذا الأصل بُني عليه من فجر التاريخ نوع من العصبية القبلية، التي حذر منها النبي - صلى الله عليه وسلم -،فَعنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -،قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» (?)

ومع ذلك ظلت موجودة على مستوى الجيوش، وعلى مستوى السلطة، وعلى مستوى العلاقات، وتوارثها الناس اليوم، وأصبحت إحدى العوامل المؤثرة في انشطار المجتمع واختلافه، أنه ينقسم إلى مجموعة من الشرائح، والتكوينات الأسرية القائمة على أنساب متميزة، فلم يقتصر الأمر على مجرد تعارف، أو انتساب، وإنما تحول إلى نوع من التعصب، والتناحر والتنافس تضيع في حماه مسألة الكفاءة والجدارة والأفضلية، فهنا أصبح في الأمر نوع من الالتباس، بينما هو أصلي وصحيح ومشروع، وبينما هو طارئ ومذموم ومنبوذ.

السلطة الثالثة: السلطة العلمية

طور بواسطة نورين ميديا © 2015