على أن حركة تحقيق التراث العربى شابتها في جميع أدوارها ظاهرة واضحة، هى أن العمل كان يبدأ بحماسة وسرعة في تحقيق كثير من الموسوعات، ثم لا يلبث أن يتوقف العمل في تحقيق هذه الموسوعة أو تلك قبل أن تكتمل. وهكذا ألفينا أنفسنا أمام حقيقة لا نستطيع أن ننكرها أو نتغاضى عنها، هى أن جزءا لا يستهان به من تراث الفكر العربى تم تحقيقه ونشره في صورة مبتورة، بحيث ظهرت الأجزاء الأولى من الكتاب أو الموسوعة في حين ظلت بقية الأجزاء في صورتها الخطية المليئة بأخطاء النساخ، يصعب الرجوع إليها، ويتعذر الإستفادة منها فائدة كاملة.
ولا تقتصر خطورة هذا الوضع على المصاعب التي يصادفها الباحثون في الرجوع إلى الأجزاء الخطية من تراثنا العربى، وبالتالى على عدم الإفادة من هذا التراث فائدة تامة متكاملة، وإنما هناك ما هو أشد خطرا وأبعد أثرا. ذلك أن الأجزاء الأخيرة من أية موسوعة تاريخية هى في كثير من الحالات أعظم أهمية وأكثر فائدة، لأن المؤلف كان يدونها في وقت متأخر نسبيا وقد اكتمل نضجه الفكرى، وازدادت دائرة علمه اتساعا. وفى موسوعات علم التاريخ وحولياته - بوجه خاص - نجد هذه الظاهرة أشد ما تكون وضوحا، لأن المؤرخ إذا اعتمد على الرواية والنقل في تسجيل أحداث السنوات الأولى من كتابه، فإنه في تأريخه للسنوات الأخيرة من موسوعته يروى أحداثا شاهدها بنفسه وربما شارك في صنعها.
ولا تخفى علينا الأسباب الحقيقية لتوقف العمل في تحقيق ونشر كثير من المخطوطات العربية عند مرحلة معينة. فتراث الفكر العربى جمع بين كثرة العدد وضخامة الحجم من ناحية، وبين العمق والأصالة من ناحية أخرى. وهكذا تبدو معظم الموسوعات العربية - من ناحيتى الكم والكيف - أعظم من أن