سُبْحَانَهُ مثلا من عُقُولهمْ يدلهم على قبح عِبَادَتهم لغيره وَإِن هَذَا أَمر مُسْتَقر قبحه وهجنته فِي كل عقل وَإِن لم يرد بِهِ الشَّرْع وَهل فِي الْعقل أنكر وأقبح من عبَادَة من لَو اجْتَمعُوا كلهم لم يخلقوا ذبابا وَاحِدًا وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لم يقدروا على الِانْتِصَار مِنْهُ واستنقاذ مَا سلبهم إِيَّاه وَترك عبَادَة الخلاق الْعَلِيم الْقَادِر على كل شَيْء الَّذِي لَيْسَ كمثله شَيْء أَفلا ترَاهُ كَيفَ احْتج عَلَيْهِم بِمَا رَكبه فِي الْعُقُول من حسن عِبَادَته وَحده وقبح عبَادَة غَيره وَقَالَ تَعَالَى {ضرب الله مثلا رجلا فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هَل يستويان مثلا} هَذَا مثل ضربه الله لمن عَبده وَحده فَسلم لَهُ وَلمن عبد من دونه آلِهَة فهم شُرَكَاء فِيهِ متشاكسون عسرون فَهَل يستوى فِي الْعُقُول هَذَا وَهَذَا وَقد أَكثر تَعَالَى من هَذِه الْأَمْثَال ونوعها مستدلا بهَا على حسن شكره وعبادته وقبح عبَادَة غَيره وَلم يحْتَج عَلَيْهِم بِنَفس الْأَمر بل بِمَا رَكبه فِي عُقُولهمْ من الْإِقْرَار بذلك وَهَذَا كثير فِي الْقُرْآن فَمن تتبعه وجده وَقَالَ تَعَالَى {وَقضى رَبك أَلا تعبدوا إِلَّا إِيَّاه وبالوالدين إحسانا} فَذكر توحيده وَذكر المناهي الَّتِي نَهَاهُم عَنْهَا والأوامر الَّتِي أَمرهم بهَا ثمَّ ختم الْآيَة بقوله {كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها} أَي مُخَالفَة هَذِه الْأَوَامِر وارتكاب هَذِه المناهي سَيِّئَة مَكْرُوهَة لله فَتَأمل قَوْله سَيِّئَة عِنْد رَبك مَكْرُوها أَي أَنه سيء فِي نفس الْأَمر عِنْد الله حَتَّى لَو لم يرد بِهِ تَكْلِيف لَكَانَ سيئه فِي نَفسه عِنْد الله مَكْرُوها لَهُ وكراهته سُبْحَانَهُ لَهُ لما هُوَ عَلَيْهِ من الصّفة الَّتِي اقْتَضَت أَن كرهه وَلَو كَانَ قبحه إِنَّمَا هُوَ مُجَرّد النَّهْي لم يكن مَكْرُوها لله إِذْ لَا معنى للكراهة عِنْدهم إِلَّا كَونه مَنْهِيّا عَنهُ فَيَعُود قَوْله كل ذَلِك كَانَ سيئه عِنْد رَبك مَكْرُوها إِلَى معنى كل ذَلِك نهى عَنهُ عِنْد رَبك وَمَعْلُوم إِن هَذَا غير مُرَاد من الْآيَة وَأَيْضًا فَإِذا وَقع ذَلِك مِنْهُم فَهُوَ عِنْد النفاة لِلْحسنِ والقبح مَحْبُوب لله مرضى لَهُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَقع بإرادته والإرادة عِنْدهم هِيَ الْمحبَّة لَا فرق بَينهمَا وَالْقُرْآن صَرِيح فِي أَن هَذَا كُله قَبِيح عِنْد الله مَكْرُوه مبغوض لَهُ وَقع أَو لم يَقع وَجعل سُبْحَانَهُ هَذَا البغض والقبح سَببا للنَّهْي عَنهُ وَلِهَذَا جعله عِلّة وَحِكْمَة لِلْأَمْرِ فَتَأَمّله وَالْعلَّة غير الْمَعْلُول وَقَالَ تَعَالَى {لقد أرسلنَا رسلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأنزلنا مَعَهم الْكتاب وَالْمِيزَان ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ} دلّ ذَلِك على أَن فِي نفس الْأَمر قسطا وَأَن الله سُبْحَانَهُ أنزل كِتَابه وَأنزل الْمِيزَان وَهُوَ الْعدْل ليقوم النَّاس بِالْقِسْطِ أنزل الْكتاب لأَجله وَالْمِيزَان فَعلم أَن فِي نفس الْأَمر مَا هُوَ قسط وَعدل وَحسن ومخالفته قبيحة وَأَن الْكتاب وَالْمِيزَان نزلا لأَجله وَمن يَنْفِي الْحسن والقبح يَقُول لَيْسَ فِي نفس الْأَمر مَا هُوَ عدل حسن وَإِنَّمَا صَار قسطا وعدلا بِالْأَمر فَقَط وَنحن لَا ننكر أَن الْأَمر كَسَاه حسنا وعدلا إِلَى حسنه وعدله فِي نَفسه فَهُوَ فِي نَفسه قسط حسن وكساه الْأَمر حسنا آخر يُضَاعف بِهِ كَونه عدلا حسنا فَصَارَ ذَلِك ثَابتا لَهُ من الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَمن هَذَا قَوْله تَعَالَى وَذَا فعلوا فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا