وبعد النُّزول عن هذا المقام، فأقصى ما فيه أن يقال: إنَّ الشريعة جاءت بما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه، لا بما يُحِيلُه العقل، ونحن لا ننكرُ ذلك، ولكن لا يَلْزَمُ منه نفيُ الحِكَم والمصالح التي اشتملت عليها الأفعالُ في ذواتها، والله أعلم.
الوجه الثَّامن والخمسون: قولكم: "وظَهَرَ بهذا أنَّ المعاني المستنبطةَ راجعةٌ إلى مجرَّد استنباط العقل، ووضعِ الذِّهن، من غير أن يكون الفعلُ مشتملًا عليها" (?) = كلامٌ في غاية الفساد والبطلان، لا يرتضيه أهلُ العلم والإنصاف، وتصوُّره حقَّ التصوُّر كافٍ في الجزم ببطلانه من وجوهٍ عديدة:
أحدها: أنَّ العقلَ والفطرةَ يشهدان ببطلانه، والوجود يكذِّبه؛ فإنَّ أكثر المعاني المستنبطة من الأحكام ليست من أوضاع الأذهان المجرَّدة عن اشتمال الأفعال عليها، ومُدَّعِي ذلك في غاية المكابرة التي لا تُجْدِي عليه إلا تَوْهِينَ المقالة.
وهذه المعاني المستنبطةُ من الأحكام موجودةٌ مشهودة، يعلمُ العقلاءُ أنها ليست من أوضاع الذِّهن، بل الذِّهنُ أدركها وعَلِمَها، وكان نسبةُ الذِّهن إلى إدراكها كنسبة البصر إلى إدراك الألوان وغيرها، وكنسبة السَّمع إلى إدراك الأصوات، وكنسبة الذَّوق إلى إدراك الطُّعوم، والشَّمِّ إلى إدارك الرَّوائح، فهل يسوغُ لعاقلٍ أن يدَّعيَ أنَّ هذه المُدْرَكاتِ من أوضاع الحواسِّ؟ !
وكذلك العقلُ إذا أدرَك ما اشتملَ عليه الكذبُ والفجورُ وخرابُ العالم