والظُّلمُ وإهلاكُ الحرث والنَّسل والزِّنا بالأمَّهات وغيرُ ذلك من القبائح، وأدرَك ما اشتملَ عليه الصِّدقُ والبِرُّ والإحسانُ والعدلُ وشُكرانُ المُنعِم والعِفَّةُ وفعلُ كلِّ جميل من الحُسْن = لم تكن تلك المعاني التي اشتملت عليها هذه الأفعالُ مجرَّدَ وضع الذِّهن واستنباط العقل، ومُدَّعِي ذلك مَؤُوفٌ (?) في عقله؛ فإنَّ المعاني التي اشتملت عليها المنهيَّاتُ المُوجِبةُ لتحريمها أمورٌ ناشئةٌ من الأفعال ليست أوضاعًا ذهنيَّة، والمعاني التي اشتملت عليها المأموراتُ المُوجِبةُ لحُسْنها ليست مجرَّدَ أوضاع ذهنيَّة، بل أمور حقيقيَّة ناشئة من ذوات الأفعال تَرتُّبُ آثارِها عليها كترتُّب آثار الأدوية والأغذية عليها.
وما نظيرُ هذه المقالة إلا مقالةُ من يزعمُ أنَّ القُوى والآثار المستنبطة من الأغذية والأدوية لا حقيقة لها، إنما هي أوضاعٌ ذهنيَّة! ومعلومٌ أنَّ هذا بابٌ من السَّفْسَطة (?).
فاعْرِض معاني الشريعة الكليَّة على عقلك، وانظر ارتباطَها بأفعالها وتعلُّقَها بها، ثمَّ تأمَّل هل تجدُها أمورًا حقيقيةً تنشأ من الأفعال، فإذا فُعِل الفعلُ نَشَأ منه أثرُه، أو تجدُها أوضاعًا ذهنيَّةً لا حقيقة لها؟
وإذا أردتَ معرفةَ بطلان المقالة فكرِّر النَّظر في أدلَّتها، فأدلَّتُها من أكبر الشواهد على بطلانها، بل العاقلُ يستغني بأدلة الباطل عن إقامة الدَّليل على بطلانه، بل نفسُ دليله هو دليلُ بطلانه.