الوجه الرابع والأربعون: أنَّ قدرتَه على الشيء لا تنفي حكمتَه المانعة من وجوده؛ فإنَّه تعالى يَقْدِرُ على مقدوراتٍ تُمْنَعُ بحكمته، كقدرته على قيام السَّاعة الآن، وقدرته على إرسال الرُّسل بعد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقدرته على إبقائهم بين ظهور الأمَّة إلى يوم القيامة، وقدرته على إماتة إبليسَ وجنوده وإراحة العالَم منهم.
وقد ذكر سبحانه في القرآن قدرتَه على ما لا يفعلُه لحكمته في غير موضع؛ كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام: 65]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]، وقوله: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 3 - 4]، أي: نجعلُها كخُفِّ البعير صفحةً واحدة، وقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118].
فهذه وغيرُها مقدوراتٌ له سبحانه، وإنما امتَنعت لكمال حكمته، فهي التي اقتضت عدمَ وقوعها، فلا يلزمُ من كون الشيء مقدورًا أن يكون حسنًا موافقًا للحكمة.
وعلى هذا، فقدرتُه تبارك وتعالى على ما ذكرتم لا تقتضي حُسْنَه وموافقتَه لحكمته، ونحن إنما نتكلَّمُ معكم في الثَّاني لا في الأوَّل، فالكلامُ في الحكمة ومقتضى (?) الحكمة والعناية غيرُ (?) الكلام في المقدور،