فمتَعلَّقُ الحكمة شيءٌ ومتَعلَّقُ القدرة (?) شيء، ولكن أنتم إنما أُتِيتم من إنكار الحكمة، فلا يُمْكِنكم التفريقُ بين المُتَعلَّقَين، بل قد اعترفَ سلفُكم وأئمَّتكم بأنَّ الحكمةَ لا تخرُج عن صحَّة تعلُّق القدرة بالمقدور ومطابقته لها أو تعلُّق العلم بالمعلوم ومطابقته له، ولمَّا بنيتُم على هذا الأصل لم يُمْكِنكم الفرقُ بين مُوجَب الحكمة ومُوجَب القدرة، فتوعَّرت عليكم الطَّريق، وألجأتم أنفسَكم إلى أصعب مضيق.
الوجه الخامس والأربعون: قولكم: "إنه تعالى لو ألقى إلى العبد زِمامَ الاختيار، وتركه يفعلُ ما يشاء، جريًا على رُسوم طبعِه (?) المائل إلى لذيذ الشهوات، ثمَّ أجزل له في العطاء من غير حساب؛ كان أروَحَ للعبد، ولم يكن قبيحًا عند العقل" (?).
فيقال لكم: ما تعنُون بإلقاء زِمام الاختيار إليه؟ أتعنُون به أنه لا يكلِّفه ولا يأمرُه ولا ينهاه، بل يجعلُه كالبهيمة السَّائمة المهمَلة؟ أم تعنُون به أنه يلقي إليه زمامَ الاختيار مع تكليفه وأمره ونهيه؟
فإن عنيتُم الأوَّل، فهو مِنْ أقبح شيءٍ في العقل وأعظمه نقصًا في الآدميِّ، ولو تُرِك ورسومَ طبعه لكانت البهائمُ أكملَ منه، ولم يكن مكرَّمًا مفضَّلًا على كثيرٍ ممَّن خلق الله تفضيلًا، بل كان كثيرٌ من المخلوقات - أو أكثرها - مفضَّلًا عليه، فإنَّه يكونُ مصدودًا عن كماله الذي هو مستعدٌّ له قابلٌ له، وذلك أسوأ حالًا وأعظمُ نقصًا ممَّا مُنِعَ كمالًا ليس قابلًا له.