ووصيتي لكل قاضٍ ألا يحكم إلَّا به، ولا يحكم بعلمه، بل بالبينة، وفي اشتراط العلم بالملك الخلاف المعروف فيما لو باعَ مال أبيه عن ظن حياته فبانَ ميتًا؛ فإن شرطناه فهي اثنان وعشرون شرطًا للصحة المطلقة. قال: وأمَّا الصحة بالنسبة إلى المتداعيين في شيء يتداعيانه؛ كما إذا ادَّعى أحدهما أنَّه غير مرئيّ، وبيان الحاكم لا يرى اشتراط الرؤية، فيحكم عليه بالصحة مع عدم الرؤية؛ لأنه مذهبه ولم يحصل النزاع إلَّا فيه فهذا حكم بصحة مقيدة لا بصحة مطلقة. فلا يمنع حاكمًا آخر من الحكم بفساده من جهة أخرى. وأطالَ الشيخ الإِمام الكلام في الصحة المطلقة فيما عدده من الشروط في كتابه المسمَّى "وقت الصبحة في الحكم بالصحة" وهو كتاب لم يتممه. ومن كلام الشيخ الإِمام رحمه اللَّه في وصية أخرى للقضاة قال فيها بعد أن ساق حديث: (القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة؛ واثنان في النار؛ قاض قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة، وقاضٍ قضى بالحق وهو لا يعلم فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير الحق فهو في النار). ما نصُّه -ونقلته من خطه-: تنبَّه أيُّها القاضي لما أنت فيه من الأخطار، وطب نفسًا إذا حكمت بحق تعلم للَّه تعالى، وإلَّا فلا، واعلم أنَّ الحلال بين، وهو الذي تجده منصوصًا عليه في كتاب اللَّه تعالى وسنَّة نبيّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو مجمعًا عليه، أو عليه دليل جيِّدٌ غير ذلك من سائر الأدلة الراجعة إلى الكتاب والسنَّة، بحيث ينشرح صدرك لأنه حكم اللَّه تعالى. فهذا حكمك به عبادة تثاب عليه؛ وينبغي لك أن تقصد به وجه اللَّه تعالى، فلا يكون حكمك به لمخلوق، ولا لغرض من أغراض الدنيا. فبذلك تكمل العبادة فيه، وتنال الأجر من خالقك. وإن حكمت به لغرض من أغراض الدنيا صحَّ الحكم، ولكن لا يكون لك فيه أجر. وما سوى هذا فهو على درجات: إحداها أن تحكم بذلك من غير قصد القُرْبة، ولا غرض من الأغراض الدنيوية، فهذا خير من القِسْم الثاني الذي قبله، الذي قصد به غرض دنيوي، ولكنَّه يظهر أيضًا أنَّه لا أجر فيه؛ لعدم قصد القُرْبة. واعلم أنَّا لا نشترط وجود قصد القربة عند الحكم؛ بل نكتفي به في أصل ولاية القضاء، لأنه قد يشُقّ استحضاره في كل حكم، فنكتفي به عند الدخول في أوّله، كما اكتفى بنية المجاهد في أول خروجه. الرتبة الثالثة أن يكون الحكم مختلفًا فيه، وحصل ما يجوز الإِقدام على، الحكم به من الأدلّة الشرعية مع احتمال يمنع من انشراح الصدر له الانشراح الكلّي، فهذا جائز، والأجر فيه دون القسم المجمع عليه؛