ينبِّهه بها للنعم الأخروية؛ إذ هي غاية الوسائل وأنا أرجو أن من كانت عنده نعمة للَّه تعالى في دينه أودنياه وزالت، فنظرَ هذا الكتاب نظر معتقد، وفهمه، وعمل بما تضمَّنه بعد الاعتقاد، عادت إليه تلك النعمة أو خير منها، وزالَ همَّه بأجمعه، وانقلبَ فرحًا مسرورًا فمن شكَّ فليستعمل هذا الدواء، لا على قصد التجربة والافتقاد ونظرَ الاختبار والانتقاد، بل بحسن الظنِّ وجميل الاعتقاد، فإنه عند ذلك يظفر بغاية المراد. أسأل اللَّه أن يصرف إليه عزمة مستحقيه ويصرف عنه هِمَّة من لا يستحقه ولا يدريه.
(الأمر الأوَّل) أن تعلم أين أُتِيت، وما السبب الذي زالت به عنك النعمة؟ فإن النعمة لا تزول عنك سُدًى وإن اللَّه لا يغيِّر ما بقومٍ حتَّى يغيِّروا ما بأنفُسِهِم.
اعلم أنها لم تزل عنك إِلَّا لإِخلالك بالقيام بما يجب عليك من حقوقها، وهو الشكر؛ فإنَّ كل نعمة لا تُشكر جديرة بالزوال. ومن كلامهم: النعمة إذا شُكِرت قرَّت، وإذا كُفِرت فرَّت. وقيل: لا زوال للنعمة إذا شكرت، ولا بقاءَ لها إذا كفرت. وقيل النعمة وحْشيّة فاشْكلوها بالشكر. والأدلّة على أنَّ كفران النعم يوجب انزواءها كثيرة، فلا نطيلُ بذكرها. والحاصل أنَّ كتاب اللَّه وسنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- دالَّان على أنَّ كفران النعمة يؤذن بزوالها، وشكرها يقضي بمزيدها. وذكرَ العارفون أنَّ الرب قطع بالمزيد مع الشكر، ولم يستثن فيه، واستثني في خمسة أشياء: في الإغناء والإِجابة والرزق والمغفرة والتوبة فقال تعالى: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} (?) وقال تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} (?) وقال تعالى: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} (?) {وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} (?) وقال تعالى: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} (?) وقال في الشكر من غير استثناء: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (?) فإن قلت: فما الشكر؟ قلت: قد شرحه العارفون. وبيَّنوا حقيقته. وأنا أختصر لك القول فيه، وآتي بما يقرِّب من فهمك؛ فأقول: الشكر يكون بالقلب واللسان والأفعال. هذه أركانه، الثلاثة: أما القلب -وهو أعظمها- فالمراد منه أن تعلم وتعتقد أن الله هو الذي منحك النعمة لا أحد سواه شاركه، فإنَّ كل من تقدره من كبير وأمير ووزير وصاحب وخليل ووالد