وغيرهم لا يقدر على فعل شيء لنفسه فضلًا عن غيره وإن جرى على يديه خير فاللَّه تعالى هو الذي أجراه على يديه؛ وإلَّا فهو لا مدخل له فيه ولا صنع. فمن أنعمَ عليه ملك من الملوك بشيء فإن رأى لوزير الملك أو لحاشيته مدخلًا في تيسير ذلك وإيصاله فهو إشراكٌ بالملك في النعمة، إذ لم ير النعمة منه من كل وجه، بل رآها منه ومن غيره فيتوزَّع فرحه عيهما، فلا يكون موحدًا في حق الملك فمن حقّ الملك أن يعاقبه على هذا الاعتقاد.
فإن قلت: ما علاج هذا الداء فإنِّي أرى أناسًا لي عليهم خدمة، ولي عندهم يد، وبيني وبينهم صداقة، يصدر على أيديهم نفعى في ديني ودنياي فلا أستطيع أن أدفعهم عن قلبي؟ قلت: من الذي سخَّرهم لك، وألقى في قلبهم الدَّاعية، ويسَّر الأسباب عليهم حتى أوصلوا النفع إليك؟ هات قل لي. فإن قلت: اللَّه الذي سخَّرهم وسخَّر الشمس والقمر كلّ يجري بأمره، فاعلم أنهم مسخَّرون تحت قبضته.
فإن كنت تعتقدهم فاعلين شيئًا فهلَّا اعتقدت القلم والحبر والكاغَد (?) التي كتب بها منشورك فاعلًا! ولم لا اعتقدت الموقِّع فاعلًا؟ ولم لا اعتقدت الخازن الذي يُخرج لك الدراهم فاعلًا؟ فإذا كنت تعتقد أنَّ كل واحد من هؤلاء مقهور مِن الملك مجبور، ولو خلِّي ونفسه لما أعطاك ذَرَّة، فافهم أنَّ كل من وصل لك على يديه خير من المخلوقين فهو كذلك في قبضة ربِّ العالمين. فاشكره وحده ولا تُشرك به أحدًا.
واعلم أنَّ المخلوق مضطرٌّ سلَّط اللَّه عليه الإِرادة، وهيَّج عليه الدواعي، وألقى في قلبه أن يعطيك، فلم يجد بعد ذلك سبيلًا إلى دفعك؛ ولا يعطيك والحالة هذه إِلَّا لغرض نفسه لا لغرضك. ولو لم يكن له غرض في الإِعطاء لما أعطاك. ولو لم يعتقد أن له نفعًا في نفعك لما نفعك. فهو إذًا إنَّما يطلب نفع نفسه بنفعك. ويتَّخذك وسيلة إلى نعمة أخرى يرجوها لنفسه. وما أنعمَ عليك إلَّا الذي سخَّره لك وألقى في قلبه ما حمله على الإِحسان إليك. فإن قلت: فلم ورد الشرع بشكري إياه حيث قال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا