وبعد سنة أو أكثر قليلا من عام شرائه أدخله سيده إلى الكتّاب في بغداد، وكان عسكر أميّا لا يحسن الخط ولذلك كان بحاجة إلى من يعينه في تجارته بالمكاتبات، وربما في الشؤون الحسابية أيضا، ورجا أن يكون ياقوت هو من يحقق له هذا العون.
ويبدو أن دخل عسكر من التجارة كان كبيرا، وعن هذا الطريق أصبح ثريا، وأوصله ثراؤه إلى أن تزوج بنت أحد الرؤساء ببغداد، ورزق منها بنين، كبروا وتابعوا حرفة أبيهم حيث نشأوا.
وأقبل ياقوت في الكتّاب على التعلم، وشغف بالكتب شغفا لازمه طوال حياته، حتى أنه منذ سن السابعة في المكتب ما خلت يده من كتاب يستفيد منه أو يطالعه أو يكتب شيئا منه أو ينسخه «1» ، ولكن بدلا من أن يستخدمه سيده في متجره كاتبا أو حاسبا حوّله إلى تاجر متجول يسافر في ما لدى عسكر من بضائع برا وبحرا، فكانت غايته في البحر أن يصل إلى جزيرة كيش (فيس) في بحر عمان، وغايته في البر أن ينقل السلع الموكولة إليه إلى الشام ومصر. ويقول ابن الشعار: إنه دخل جزيرة كيش أربع مرات، وأنه دخل مصر عدة مرات، وأما دمشق فإنه تردد إليها مرات لا تكاد تحصى «2» ، وبعض ذلك تمّ وهو ما يزال في حكم مولاه، فيأتمر بأمره وينفذ توجيهاته، ولكن ياقوتا نفسه يذكر أنه دخل كيش ثماني مرات. كان يركب السفينة إليها من البصرة، وكان في كل مرة يشهد المدّ والجزر هنالك «3» .
ولما كانت معرفته بجزيرة كيش معرفة مشاهدة متكررة فإنه يذكر أنها مدينة مليحة المنظر ذات بساتين وعمارات جيدة، وفيها مسكن صاحب عمان، وهو يملك أسطولا تجاريا ضخما، وكانت الجزيرة ملتقى التجار، وفيها عرف ياقوت جماعة من أهل الأدب والفضل «4» ، وقد ذكر للقفطي في ما بعد أنه شاهد عند بعض أهلها كتابا جامعا يشتمل على ما اتفق لفظه واختلف معناه، وأنه وجده أجمع ما صنّف في هذا الصنف من المؤلفات، وسأل الرجل الذي كان الكتاب في حوزته عن مؤلفه، فلم يذكر