وعن الأصمعي قال «1» : كان أبو الأسود يكثر الركوب فقيل له: يا أبا الأسود، لو قعدت في منزلك كان أودع لبدنك وأروح. فقال أبو الأسود: صدقتم، ولكن الركوب أتفرج فيه وأستمع من الخبر ما لا أسمعه في منزلي، واستنشق الريح فترجع إليّ نفسي، وألاقي الإخوان. ولو جلست في منزلي اغتمّ بي أهلي، واستأنس بي الصبي، واجترأت عليّ الخادم، وكلمني من أهلي من يهاب أن يكلمني.
وقيل: أصاب أبا الأسود الفالج فكان يخرج إلى السوق يجر رجله وكان موسرا ذا عبيد، فقيل له: فقد أغناك الله عن السعي في حاجاتك، لو جلست في بيتك.
فقال: لا، ولكني أخرج، ثم ادخل، فيقول الخادم قد جاء، ويقول الصبي قد جاء، ولو جلست في البيت فبالت عليّ الشاة ما منعها أحد عني.
أراد علي بن أبي طالب «2» ، عليه السلام، أن يبعث بأبي الأسود حكما، فقال له معاوية بعد ذلك: ما كنت قائلا يا أبا الأسود لو بعثت حكما؟ فقال: لي الأمان على نفسي؟ قال: نعم. قال: وعلى صديقي وأهلي وولدي ومالي؟ قال: نعم. قال:
كنت قائلا: يا معشر المسلمين، المهاجرون الأولون أحقّ بها أم أولاد الطلقاء؟ قال له معاوية: اسكت.
دخل أبو الأسود على عبد الملك بن مروان فلما اطمأن به المجلس قال له: يا أبا الأسود، ما مالك؟ فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، إنّ خبر القرشي عن ماله على إحدى منزلتين: إن كان فقيرا حقر، وإن كان غنيّا حسد. قال: أقسمت عليك إلا أخبرتني. قال: فأما إذ أبيت فإني أورث، وإرثي ما ورث حاتم طيء وارثه حيث يقول «3» :
متى ما يجىء يوما إلى المال وارثي ... يجد جمع كفّ غير ملء ولا صفر
يجد فرسا مثل العنان وصارما ... حساما إذا ما هز لم يرض بالهر
وأسمر خطيا كأنّ كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر