وقد حاكموها والمنايا حواكمٌ ... فما مات مظلومٌ ولا عاش ظالم
يقول: إن الروم والروس حاكموا هذه القلعة إلى المنايا، وجعلوها حاكمةً بينهم وبين القلعة، فكانت هذه مظلومة، والروم ظالمين، تغلبوا عليها وأخذوها من المسلمين ظلماً، فحكمت المنية بموت الظالم وحياة المظلوم، فقتل الروم، وهم ظالمون، وعاش المظلوم وهي القلعة؛ لأنها تخلصت من أيديهم.
وقيل: المظلوم هم المسلمون؛ لأن الروم ظلموهم بأخذها منهم. يعني أنك أخذتها منهم بالسيف والقتل، فكأنك حاكمتهم إلى السيوف فقضت لك بما فعلت.
أتوك يجرّون الحديد كأنّهم ... سروا بجيادٍ ما لهنّ قوائم
يقول: أتوك وعليهم الدروع، وعلى خيلهم التجافيف، كأنها لم تكن لها قوائم.
إذا برقوا لم تعرف البيض منهم ... ثيابهم من مثلها والعمائم
البيض: السيوف. وثيابهم: الدروع والجواشن، والعمائم البيض. وقوله: من مثلها: أي الثياب والعمائم كانت مثل البيض؛ لأنها كانت من الحديد.
يقول: جاءوك في أسلحة تامة، فلم تفرق بين سيوفهم وبينهم، لأن ثيابهم وعمائمهم كانت من الحديد.
وقيل: أراد أن السيوف لم تتميز من لباسهم، لبريقها ولمعانها.
خميسٌ بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
الزحف: السير الهين. والزمازم: جمع زمزمة، وهي كل صوت لا يفهم، وأراد به صوتهم وصليل الحديد، وصهيل الفرس.
يصف كثرة الجيش وأنه ملأ الأرض شرقها وغربها وبلغت زمازمه إلى السماء، والجوزاء مصغية إليه تسمع أصواته. وخص الجوزاء لأنها على صورة إنسان وقد أمال عنقه، فجعلها تسمع إلى أصواته.
تجمّع فيه كلّ لسنٍ وأمّةٍ ... فما يفهم الحدّاث إلاّ التّراجم
اللسن: اللغة. والحداث: المتحدثون. والتراجم: جمع الترجمان.
يقول: إن جيش العدو الذي ملأ الأرض، كان قد تجمع فيه أمم مختلفة اللغات، فلا يفهم بعضهم كلام بعض إلا بالترجمان.
وقيل أراد به جيش سيف الدولة.
فلله وقتٌ ذوّب الغشّ ناره ... فلم يبق إلاّ صارمٌ أو ضبارم
قوله: فلله وقت في معنى التعجب، والضبارم: الأسد الشديد الغليظ.
يقول: إن وقت الحرب أذاب الغش ناره.
يعني: أن الحرب لما اشتدت فر منها كل جبان فشل عاجز، وتكسر كل سيف غير قاطع، فلم يبق إلا نخب الفرسان، فشبه الحرب بالنار، والجبن بالغش الذي تذيبه النار.
وقيل: أشار بهذا إلى أن خيل سيف الدولة لا تحارب على وجه المسارقة والختل، بل يجاهرون بالمحاربة فعبر عن الختل بالغش.
تقطّع ما لا يقطع الدّرع والقنا ... وفرّ من الفرسان من لا يصادم
يقول: لم يبق في ذلك الوقت من السيوف كل سيف لا يقطع الدروع ولا يمسها، وفر من الفرسان كل ضعيف، لا يصادم الأبطال: أي لا يحارب.
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقفٍ ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
يقول: وقفت في مقام من قام فيه لا يشك أنه يقتل، وقد أحاط الموت من كل جانب، حتى كان الردى نائم عنك وأنت قائم في جفنه؛ لإحاطته بك.
شبه إحاطة الردى به بكونه في جفنه، وسلامته بكون الردى نائم عنه.
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ... ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم
يقول: وقفت وكانت الأبطال تمر بك، وهي مجروحة منهزمة عابسة الوجوه، وأنت مشرق الوجه ضاحك السن، لم تداخلك حيرة لانهزام أصحابك، ومعرفتك بوجه الأمر في تلك الحالة.
وحكى أن سيف الدولة استنشد أبا الطيب هذه القصيدة وكان معجباً بها، فاندفع أبو الطيب ينشدها فلما بلغ إلى قوله: وقفت إلى آخر البيتين قال سيف الدولة: إن صدر البيتين لا يلائم عجزهما، وكان ينبغي أن تقول:
وقفت وما في الموت شكٌّ لواقفٍ ... ووجهك وضّاحٌ وثغرك باسم
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمةً ... كأنّك في جفن الرّدى وهو نائم
فقال أبو الطيب: لما ذكرت الموت أتبعته ذكر الردى لتجانسهما، ولما كان وجه الجريح المنهزم لا يخلو من العبوس، وعينه من البكاء قلت: ووجهك وضاح وثغرك باسم للمطابقة بينهما.
تجاوزت مقدار الشّجاعة والنّهى ... إلى قول قومٍ: أنت بالغيب عالم