فو من أحبّ لأعصينّك في الهوى ... قسماً به وبحسنه، وبهائه
الفاء في قوله: فو من للعطف. والواو حرف القسم، والمقسم به المحبوب، والجواب لأعصينك، والكاف، خطاب للعاذل، وقسماً: نصب على المصدر.
يقول: وحق من أحب، وحق حسنه، لا أطيعك فيما تأمرني، ولا أصغي إلى ملامك فيه.
أأحبّه وأحبّ فيه ملامةً؟ ... إنّ الملامة فيه من أعدائه
يقول: لا أحب الملامة في جيي، ولا أصغي إليها، فكأنه ناقض أبا الشيص في قوله.
أجد الملامة في هواك لذيذةً ... حبّاً لذكرك، فليلمني اللّوّم
عجب الوشاة من اللّحاة وقولهم: ... دع ما نراك ضعفت عن إخفائه
الوشاة: جمع الواشي. واللحاة: جمع: اللاحي، وهو الذي يزجر ويغلظ القول في الملامة. وما في قوله: ما نراك بمعنى الذي، وهو في موضع نصب بدع ونراك صلة ما وضعفت في موضع المفعول الثاني، والأول هو الكاف.
يقول: إن اللحاة قالوا لي: دع الذي نراك ضعيفاً عن إخفائه. أي دع هذا الهوى، فعجب الوشاة من تكليف اللحاة إياي ما لا أطيق، فإني إذا ضعفت عن إخفائه، كنت على تركه والإفاقة من سكره أضعف.
ما الخلّ إلاّ من أودّ بقلبه ... وأرى بطرفٍ لا يرى بسوائه
يقول: ليس في هؤلاء اللحاة صديق شفيق، ولا خليل نصيح، فأصغ إلى ملامه، فإن الصديق من يساعد صديقه، فيحب ما يحبه، ويكره ما يكرهه، حتى كأنهما يحبان بقلب واحد، وينظران بعين واحدة.
فكأنه يقول: ليس صديقي إلا من يوافقني، فإذا أحببت شيئاً فكأني أحبه بقلبه! وإذا رأيت شيئاً فكأني رأيته بعينه! وهذا البيت يوافق بعض الأبيات التي أجازها وهي.
إن كنت ناصحه فداو سقامه ... وأعنه ملتمساً لأمر شفائه
حتّى يقال بأنّك الخلّ الّذي ... يرجى لشدّة دهره ورخائه
ومثله:
إن كنت تصدق في ادّعاء وداده ... فافككه من أسر الهوى أو فاده
ومعنى البيت: أنه ليس لك خليل إلا نفسك، فلا تغتر بقول من يقول: إني خليلك. وأراد بقوله: من أود بقلبه: نفسه؛ لأن المرء إنما يود الشيء بقلب نفسه، وكذلك قوله: وأرى بطرف لا يرى بسوائه أراد طرف نفسه، وهو مثل قوله:
خليلك أنت لا من قلت خلّى ... وإن كثر التّجمل والكلام
إن المعين على الصّبابة والأسى ... أولى برحمه ربّها وإخائه
الضمير في ربها يعود إلى الصبابة. وفي إخائه إلى ربها. والأسى: الحزن والمعين على الصبابة: هو الزائد في الصبابة.
يقول: إن الذي يعين على صبابتي ويزيد بلومه في حزني، كان الأولى أن يرحمني ويلتمس شفائي.
وقيل: على بمعنى مع أي مع الصبابة وهذا مثل قول من أجاز أبياته:
أولا فدعه، فما به يكفيه من ... طول الملام فلست من نصحائه
وروى: بالأسى والمراد بها الصبر، فمعناه إن الذي يعيني في اعتقاده على صبابتي، ويريد إزالة بلائها عني، بأن يصبرني، ليس ما يفعله بإعانة في الحقيقة، وكان الأولى في باب الشفقة أن يرحمني ويساعدني على ما أنا فيه من البلوى.
والأول أولى وهو أن المراد بالمعين العاذل الذي يزيد في حزنه بالعذل.
مهلاً فإنّ العذل من أسقامه ... وترفّقاً فالسّمع من أعضائه
مهلاً وترفقاً نصب بفعل مضمر: أي أمهل مهلاً، وترفق ترفقاً. والضمير في أسقامه وأعضائه يعود إلى ربها في قوله: برحمة ربها.
يقول لعاذله: ارفق بصاحب هذه الصبابة، فإنه سقيم وعذلك يزيد في سقمه، وما زاد في السقم فهو سقم، وارفق أيضا بسمعه فإنه من جملة أعضائه، كما أن سائر الأعضاء سقمت، كذلك السمع، وسقمه: هو الصمم وقيل معناه: إن السمع إذا سمع العذل يفنى كما فنيت سائر الأعضاء، فيؤدي إلى فوات غرض العاذل، إذ لا يبقى سمع يعي العذل.
وهب الملامة في اللّذاذة كالكرى ... مطرودةً بسهاده وبكائه
هب: أي اجعل. يقال: وهبني الله فداك. واللذاذة: متعلقة بالملامة: أي لذة الملامة. معناه: دع عنك ملامتك إياي، وإن كان لك فيها لذة، لما تراه من بكائي وسهادي، واعمل على أن بكائي صرف عنك لذتك في الملامة، كما صرف عني الملام، فكما أني فقدت لذة الكرى، كذلك أنت لا بأس عليك أن تفقد لذتك في ملامتي.