بكلام موجز, لكنه يعني خلاصة تفكير عميق حيث يقول: قد علمت بِمَ غلب معاوية الناس, وكانوا إذا طاروا وقع, وإذا وقع طاروا (?). وهذا يعني أنه إذا رأى السيول الجارفة قد أقبلت لم يقاومها, وإنما يفسح لها حتى تمر, ثم يحتوي الميدان وقد زال إقبال الناس الشديد فيتمكن مما يريد, وقد عبر معاوية عن هذه السياسة بقوله المشهور: لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت, إذا جذبوها أرخيتها, وإذا أرخوها جذبتها ومن مواقفه في الحلم أنه: جرى بين رجل يقال له أبو جهم وبين معاوية كلام, فتكلم أبو جهم بكلام فيه غَمْرٌ لمعاوية, فأطرق معاوية ثم رفع رأسه فقال: يا أبا الجهم إياك والسلطان فإنه يغضب غضب الصبيان ويأخذ أخذ الأسد, وإن قليله يغلب كثير الناس, ثم أمر معاوية لأبي الجهم بمال, فقال أبو الجهم في ذلك يمدح معاوية:

نميل على جوانبه كأنا ... نميل إذا نميل على أبينا

نُقلِّبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرماً ولينا (?)

وهكذا كان لحلم معاوية رضي الله عنه وحسن خلقه ومبادلته الإساءة بالإحسان الأثر الكبير في نفس أبي الجهم فقال هذين البيتين في الثناء على معاوية, ولقد كان سلوك أمير المؤمنين معاوية تطبيقاً لقوله الله تعالى: ((وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ? وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)) (فصلت، الآيتان:35,34).

ونظراً لحلم معاوية الكبير وما يتصف به من الشجاعة والعزة فإن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أثنى عليه (?) بقوله: دعوا فتى قريش وابن سيدها, إنه لمن يضحك في الغضب ولا يُنال منه إلا على الرضا, ومن لا يؤخذ ما فوق رأسه إلا من تحت قدميه (?). فهذا قول دقيق من عمر في وصف معاوية, فقد وصفه بالدرجة العالية من الحلم, والعزة التي تجعله منيعا لا ينال ما عنده على قهر منه, وهذه الصفة من صفاته التي جعلة أمير المؤمنين عمر يبقيه أميراً على الشام لخطورة ذلك الثغر (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015