النهرين بصفة خاصة ووديان الأنهار في مختلف بقاعه بصفة عامة؛ ولذا نجد أن أقدم الحضارات في هذا الإقليم هي التي نشأت في هذه الجهات الزراعية، وبقدر ما نعم سكان تلك الجهات بالأمن؛ بقدر ما تطورت حضارتهم وتدرجوا في مراتب النهوض والرقي، وخير دليل على ذلك ما نشاهده من استمرار الحضارة المصرية ودوامها وتطورها؛ فبحكم بيئتها السهلة المنعزلة عن جيرانها أمكن اتحادها تحت لواء ملك أو أسرة حاكمة من جهة، كما أنها لم تتعرض لكثير من الغزوات من جهة أخرى، وتلي بلاد النهرين مصر في هذا المضمار، ولو أن الحضارة فيها لم تتخذ صفة الثبوت والاستمرار في كل جزء من أجزائها في وقت واحد؛ بل كانت تنتقل بين أجزائها المختلفة. ومع ذلك فإن اتصال هذه الأجزاء بعضها ببعض قد أوجد نوعًا من الاستقرار لحضارتها بصفة عامة، كما عملت الأجزاء التي تنتقل إليها هذه الحضارة على تطويرها والنهوض بها، ولا شك في أن سهولة اتصال بلاد النهرين نسبيًّا بالأقطار المجاورة لها قد جعلها ذات أثر فعال في نقل مظاهر الحضارة من تلك الأقطار وإليها.
ومن الغريب أن كلا من مصر وبلاد النهرين قد اتصلتا ببيئات مغايرة؛ إلا أن أثر ذلك عليهما لم يكن واحدًا، فمن المعروف أن مصر اتصلت منذ أقدم العصور ببلاد النوبة والساحل السوري وكان من أثر ذلك أن أعطت إلى كل من هاتين المنطقتين من حضارتها أكثر مما أخذت منهما؛ بل ويمكن القول بشيء من التجاوز أنها أعطت إليهما ولم تأخذ عنهما، أما بلاد النهرين؛ فقد اتصلت هي الأخرى بالساحل السوري بل وبساحل آسيا الصغرى كما اتصلت بهضبتي إيران وأرمينيا وقد أعطت من مظاهرها