أصول الحضارة الأولى قد وجدت فيها؛ ولكن ما دمنا قد ذكرنا بأن التراث الحضاري ملك للإنسانية جميعها؛ فليس المهم إثبات أسبقية دولة ما في ميدان الحضارة؛ ولكن المهم أن يكون لهذه الدولة فضل نقل هذه المظاهر الحضارية إلى غيرها من الدول، والأهم من ذلك كله أن يقوم شعب ما بدور فعال في نقل وتطور المظاهر الحضارية المختلفة، وأن يعطي منها لغيره، كما يتقبل من غيره بعض المظاهر الأخرى وهكذا. ومن الجدير بالذكر أن الحضارات القديمة التي لعبت دورًا مهمًّا في حياة الناس هي تلك التي نشأت في منطقة الشرق الأدنى؛ لأن هذه المنطقة بحكم موقعها كانت تتوسط العالم القديم فهي البؤرة التي أشعت المظاهر الحضارية إلى كافة أنحائه، وكان تناوب مختلف أجزاء هذه المنطقة في الوصول إلى القوة والمجد سببًا في المحافظة على التراث الحضاري القديم والأخذ بأساليب جديدة دعمت تطوره وانتشاره.
ولا شك في أن الإنسان لم يجد متسعًا من الوقت للتفكير في الإنتاج المثمر الذي يؤدي به إلى النهوض الحضاري؛ إلا إذا استقر وشعر بالأمن في بيئته، وقد يرى البعض أن الحضارة تنشأ وترتقي على أساس قاعدة التحدي والاستجابة، بين الإنسان وبيئته؛ ولكن لا شك في أن كل إنتاج إنما يبدأ من أجل الكفاح في سبيل العيش أولًا ثم من أجل الرغبة في الرفاهية ثانيًا، والأرجح أن ميل الإنسان الطبيعي للترفُّه هو العامل الأول في نهضة الحضارات ورقيها.
وإذا ما نظرنا إلى إقليم الشرق الأدنى القديم بصفة عامة لوجدنا أن استقرار الإنسان يتوفر في بيئاته الزراعية الكبرى التي تبدو في مصر وبلاد