انشقت عنه الأرض، ويمدّ إليّ ليصافحني يداً كمجرفة الخبّاز التي يجرف بها الخبز من بيت النار، ويمضي ليحدّثني حديثاً لا ينفعني ولا ينفعه، وإنما هو كلام فارغ امتلأت به نفسه فلم يجد أحمقَ يصبّه في أذنه لينفّس عن نفسه إلاّ أنا ... أو يناديني من بُعد ثلاثين متراً: "أستاذ ... " فأتصامم وأسرع كأني ما سمعت، فيصرخ "يا أستاذ طنطاوي"، ويتطوع ثلاثة على الأقل من المارين والواقفين فيعاونونه عليّ وينادون: "يا أستاذ طنطاوي"، فيصير الأستاذ الطنطاوي لا «عَلَماً في رأسه نار» بل شعلة مدخَّنة على عصا لها صوت، فهي تشغل السمع والبصر والشم، والحمد لله على الشهرة! وأقف أنتظر هذا الرجل الذي يناديني كأن له عليّ دَيْناً حان سداده، أو كأني مجرم فارٌّ وهو شرطي أمين، أو كأن عنده بشارة لي بأن قريباً لي لا أعرفه من أسلافي في طنطا مات وأورثني عشرة آلاف جنيه ... ويصل فيقول: يا أستاذ وينك؟ والله مشتاق إليك، كيفك؟ كيف حالك؟
فماذا -يا ناس- ماذا أعمل له؟ أضربه؟ أسبّه؟ أتركه وأمشي؟ أخشى أن يقول الناس: «غير مهذَّب»، فأُضطر إلى محاسنته وملاطفته وأن أدعه يقول لي: "مشتاق" فأقول: "أنا بالأكثر"، وكلانا كاذب!
والذي يفيق من الصبح يظن أن الناس كلهم مثله فيطرق عليّ الباب من الساعة السادسة، فأقوم من الفراش مذعوراً، وإذا بالزائر من لطفه يقول: "ما بدّي أعطلك، بننزل سوا". كأن الإنسان يقفز عادة من سريره إلى باب الزقاق، ولا يدري -حفظه الله- أنه يعمل أشياء، ويغسل، ويأكل ويلبس، فأضطر أن أدع هذا كله