لأحد من الناس بعينه (ولا يجوز لي أن أعرض لأحد) لسميت لك رجالاً بأسمائهم لتعرفهم.
وأنا ما سردت عليك هذه الفلسفة المزعجة إلاّ لتعلم أنك لا تزال تعيش بذخائر الماضي في نفسك وبقايا آداب الصبا، وأن الذي تدّخره في نفسك الآن من ذكريات هو الذي ستحيا به بعد عودتك؛ فانتبه يا أخي، بل يا ولدي، لما ينطبع فيها. واعلم أن لكل رفيق ترافقه، وكل مكان تحله، وكل كتاب تقرؤه، وكل رأي تسمعه، لكلٍّ من ذلك أثر في نفسك، لا تحس به لكنه موجود كالبذرة الصغيرة في الأرض. بذرة زيتون مثلاً، لا يراها أحد ولا يلتفت إليها، ولكنها تصير يوماً شجرة تضطر كل من يمر بها إلى أن يراها. وتبقى مئة سنة على حين يظن من ألقاها أنه نبذها ورماها. لذلك قال ابن عطاء الله السكندري (?): «لا تمكّنْ زائغَ القلب من أذنيك، فإنك لا تدري ما يعلق بهما منه». وقد كنت عرضت لهذا المعنى في بعض ما كتبت، ولكني أعيده عليك لأن من المعاني ما لا بدّ فيه من الإعادة ولا يضر به التكرار.
ولقد ذهبت إلى مصر وأنا في مثل سنّك. وأين مصر يومئذ (سنة 1928) من باريس اليوم؟ وكنت في مصر مثلاً مضروباً في التشدّد والبعد عن كل ما يحرم أو يشين، وعدت منها وأنا أحسب أني ازددت بسفري إليها إيماناً وتمسكاً، وإذا المرض الذي داخلتني فيها عدواه قد تمكن مني، حتى إني لا أزال إلى اليوم