والجو الذي يتنفس هواءه، فإذا نقلته إلى أرض غيرها بدلته التربة التي انتقل إليها والجو الذي صار إليه، ما لم يكن من النباتات التي أعطاها الله من القوة والتمكن ما يمنع عنها هذا التغيير والتبديل، وذلك أندر من النادر وأقلّ من القليل.
وليس يظهر هذا التبدّل من أول يوم، بل يحتاج إلى الزمن الطويل؛ إنه مرض في النفس شأنه شأن الأمراض كلها، لا بد لها من زمان تفرخ فيه جراثيمها (?) وتنمو وتسيطر، فترى الرجل تحسبه صحيحاً وهو سقيم.
والمرء أبداً ما بين ماضيه وبين آتيه، يعيش بذكريات الماضي وبآمال المستقبل، فإذا انتقل من مثل دمشق إلى باريز أو برلين مثلاً، ورأى لوناً من الحياة جديداً وانطلاقاً ميسوراً بعد تقيُّدٍ بقيود الدين والخلق، ولهواً ممكناً بعد جِدٍّ، لم يَبْدُ لهذه الحياة الجديدة أثر فيه وهو يعيش فيها، بل ربما تنبّهت في نفسه الذخيرة الدينية فازداد تمسكاً. إنما يبدو ذلك ويظهر ويعمل عمله إذا عاد إلى بلده، فافتقد ذلك الانطلاق وحنّ إليه، وضاق بهذه القيود وثقلت عليه.
وقد شاهدنا هذا في ناس من إخواننا عاشوا في باريز مثل عيش الزهاد والعباد، فلما رجعوا إلى دمشق هاموا على وجوههم كالحيوانات، تسوقهم شهواتهم وحدها، لا يهابون حراماً ولا يخافون عاراً ولا يحفِلون بشيء. ولولا أني لا أحب أن أعرض