حتى ظنت هذا الاختلاط مدنية، وتركوها تنفرد بالرجل وحدها: في عيادة الطبيب حيث تكشف عن بعض جسدها، وفي مخزن التاجر حيث تكلمه ويكلمها وتحسر عن وجهها لترى البضاعة وعن يدها لتمسك بها، وفي المدارس التي جعلناها مختلطة، بدأنا من رياض الأطفال فقلنا: هؤلاء صغار لا يدركون. وهذا حق، ولكن ألا تبقى صورة البنت في ذاكرته حتى يكبر؟ فإذا كبر ألا يكون تذكر أيام الروضة والحديث عنها فاتحة لصلة جديدة بينه وبينها؟ أوَ ليس في رياض الأطفال بنات وصبيان بلغوا وبلغن سن التمييز وبدؤوا يدركون -من كثرة ما يسمعون من الناس وما يرون من المسلسلات والأفلام- شيئاً من معنى الزواج؟
ثم تدرجنا (في كثير من بلاد المسلمين) فجعلنا المدارس الابتدائية مختلطاً فيها البنون والبنات، وفيهن مراهقات أو بالغات. أوَلم نجعل الأصل في الجامعات الاختلاط؟ يقعد الشاب العزب المحروم الذي تنضح كل خلية في جسمه بهذا الميل الذي نسميه «جنسياً» بجنب الفتاة، يمس بكتفه كتفها وبرجله رجلها، وربما كانت سافرة حاسرة تمس وجهَه أو يدَه أطرافُ جدائلها؟ وربما كانت قصيرة الثوب قد ارتفع عن ركبتيها وكشف طرفاً من فخذيها ... ثم نقول له: انتبه لحل مسائل الرياضيات ومعادلات الكيمياء وشرح المعلقات، اجعل ذهنك فيها وانسَ أن إلى جنبك بنتاً تتمناها وتشتهيها!
لقد جعلنا هذا الاختلاط هو الأصل في السفر وفي الحضر، وفي المدرسة وفي الملعب، وعلى الشواطئ وفي الجبال، وقلنا: هذه هي المدنية، فانكسر السد الثاني.
* * *