ويأتي الشرع بتفصيله.... فالفعل يكون مشتملاً على مصلحة، ومفسدة، ولا تعلم العقول مفسدته أرجح من مصلحته أو العكس، فيتوقف العقل في ذلك، فتأتي الشرائع ببيانه، وتأتي براجح المصلحة، وتنهى عن راجح المفسدة، وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره، والعقل لا يدرك ذلك. فتأتي الشرائع ببيانه فتأمر به لمن هو مصلحة له، وتنهى عنه لمن هو مفسدة في حقه 1.
وهذا لا يعني إنكاراً وتعطيلاً للعقل، ولكن إنكاراً لهذا المنهج من حيث إنه يستمد شيئاً من الكتاب والسنة ثم يخضع ذلك للمنهج العقلي للحكم عليه، فهذا الذي يؤاخذ عليه؛ لأن في الاحتكام للمنهج العقلي البحت والمنهج العلماني مخالفة للشرع؛ لأنهما يأخذان بما يثبته العقل والتجربة فقط دون المسلمات الشرعية.
والعقل أحياناً يرى في بعض الأمور أنها عين الصواب، ثم يتضح بعد ذلك أن باطنها هو الخطأ، فحقيقة مثل هذه لا يدركها العقل في معزل عن الشرع. قال الشاطبي ـ رحمه الله ـ “إن الله جعل للعقول في إدراكها حداً تنتهي إليه لا تتعداه، ولم يجعل لها سبلاً إلى الإدراك في كل مطلوب”2.