الأولى: أننا رجحنا أن هذا الشعر الجاهلي -أو بعضه- قد كُتب، في صحائف متفرقة أو في دواوين مجموعة، منذ عهد مبكر جدًّا، وربما كتب بعضه منذ العصر الجاهلي، ونحب أن نؤكد أننا لا نلقي الكلام على عواهنه، ولا نعتسف الطريق إليه اعتسافًا، وأن هذه النتيجة الأولى ليست مجرد افتراض نفترضه، ولا مجرد ظن توهمناه، ولكنها نتيجة علمية نهجنا إليها منهجًا سليمًا بعد أن حشدنا لها حشدًا كبيرًا من المقدمات التي تتمثل فيما عثرنا عليه من نصوص وأخبار؛ فهي إذن ترجيح قوي له مرجحاته الكثيرة، بل لقد كدنا أن نقول إنها يقين قاطع لولا هذا المنهج الذي نلتزمه والذي يفرض علينا الحذر في التعبير. وأين اليقين القاطع في مثل هذه الأبحاث الأدبية وخاصة في مثل هذا الموضوع وفي مثل ذلك العصر!!

والثانية: أن بعض هذه المدونات الشعرية الأولى قد وصلت إلى علماء الطبقة الأولى من الرواة، وأنهم قد اعتمدوها مصدرًا من مصادر تدوينهم لهذه الدواوين التي رواها عنهم تلاميذهم، وأن هؤلاء العلماء الرواة في القرن الثاني الهجري كانوا يعتمدون -هم وتلاميذهم- نسخًا مكتوبة من هذه الدواوين في مجالس علمهم وحلقات دروسهم، وأن الشيخ منهم كان يقرأ شعر الشاعر من نسخه، أو يقرأها أحد تلاميذه، ثم يعقب الشيخ على الشعر بالشرح والنقد والتحقيق والتمحيص. وقد بيَّنا عند حديثنا عن هذا الموضوع أن هذه المدونات لم تكن هي المصدر الوحيد، وإنما كانت أحد مصدرين. أما المصدر الثاني فقد كان الرواية الشفهية. وذلك أن العالم الراوية كان يأخذ بعض الشعر الجاهلي عن الرواة من الأعراب الذين كان يطمئن إلى صدقهم ويعتمدهم مصدرًا من مصادره، وبعض هؤلاء الرواة الأعراب كانوا من قبيلة الشاعر الذي يروون شعره، تناقلوه جيلًا بعد جيل، وتوارثوه خلفًا عن سلف؛ أو كان ذلك العالم الراوية يسمع بعض الشعر الجاهلي من غيره من العلماء، يرحل إليهم أو يرحلون إليه إن كانوا في بلدين متباعدين، أو يفد عليهم ويفدون عليه

طور بواسطة نورين ميديا © 2015