بسم الله الرحمن الرحيم
صلتي بالشعر الجاهلي قديمة، ترجع إلى أكثر من عشرين سنة، أيام كنا نحفظ المعلقات. فاستهوتني كما لم يستهوني سائر الشعر الذي كنا نحفظه. ثم تدرجت في مراحل الدراسة، وزاد محفوظي من الشعر العربي على اختلاف عصوره، ولكن استهواء الشعر الجاهلي كان يزداد حتى ليطغى على غيره. وكان شعورًا ساذجًا غير معلل، وما كنت مستطيعًا تعليله ولو أردت.
ثم قرأت -قبيل دخولي الجامعة- كتاب الأستاذ الدكتور طه حسين في الشعر الجاهلي، ففتح أمامي آفاقًا فسيحة من التفكير، ودفعني إلى أن أنظر في هذا الشعر نظر المتسائل عن قيمته وصحته، وحملني على أن أستقصى الموضوع من جذوره، وأتتبعه من جميع أطرافه.
وصرت -كلما قطعت شوطًا في دراستي الجامعية- أستبين جوانب جديدة من قيمة العصر الجاهلي وشعره، وخطرهما في دراسة الأدب العربي في عصوره الإسلامية. فالعصر الجاهلي -في حساب الزمن- أول عصور التاريخ العربي، ونحن لا نستطيع أن نعرف قومنا في مراحل تطورهم، ومواطن انتشارهم، إذا لم نعرفهم في موطنهم الأصيل وفي عصرهم الأول. ثم إن الشعر الجاهلي هو الأصل الذي انبثق منه الشعر العربي في سائر عصوره، وهو الذي أرسى عمود الشعر، وثبت نظام القصيدة، وصاغ المعجم الشعري العربي عامة؛ ولست أفهم كيف نستطيع أن نحكم على ما في شعر العصور الإسلامية من تطور وتجديد إذا لم نصل من أمر الشعر الجاهلي إلى مفصل نطمئن عنده.