والثالثة: المدارس اللغوية القديمة التي درست شعر هومر ونقدته بعد أن جمعته ودونته.
أما التشابه بين الشعر الجاهلي والشعر الإغريقي، في ملامحهما العامة وأوائل تطورهما ووسائل تحملهما وتاريخ العناية بهما ودراستهما عند القدماء، فتشابه قد اتضحت صورته في نفسي منذ أن اتصلت، شيئًا ما، بالشعر الإغريقي وتتبعت قدرًا صالحًا مما كتبه الدارسون عنه. وأراني في حل من بسط القول بسطًا يستقصي الأمور ويلم أطرافها ويحتاط لمزالقها في هذا الموضوع، ما دمت سأعرض للأمر من أصوله العامة وأتجنب الخوض في فروعه ودقائقه، وما دمت متخذًا من هذا التشابه مدخلًا لبيان النقاط الثلاثة التي ذكرتها دون تحميله من النتائج ما يتجاوز ذلك.
1- فالشعر الجاهلي وشعر هومر هما أقدم شعر وصل إلينا من العرب والإغريق، وهما -على ذلك- ليسا أول شعر قالته هاتان الأمتان؛ بل لقد سبقتهما مراحل تطور فيها الشعر حتى استوى في هذه الصورة التي وصلت إلينا. غير أن هذا الشعر المبكر عند العرب واليونان معًا قد ضاع ولم يحفظ لنا منه شيء قائم بنفسه منفصل عن غيره. ومع ذلك فإننا نستطيع أن نعرف وجود هذه المراحل السابقة من أمرين، أولهما: أن هذه الصور الشعرية التي وصلت إلينا صور فنية كاملة، متسقة، تامة التكوين، سوية البناء، ثابتة الأسس، حتى لقد أصبحت، بعد، نماذج فنية تحاكى وتحتذى ويتحذ منها عمود للشعر يحرص على التزامه شعراء العصور التالية في البيئات المتعددة التي صارت أزهى حضارة وأرقى ثقافة وأغزر معرفة. وليس يصح في الأفهام أن تنبت هذه الصورة الكاملة السوية من العدم، أو تقوم من الفراغ، أو تولد فجأة يافعة تامة التكوين. وثانيهما: أن في كلا الشعرين إشارات واضحة حينًا ومبهمة أحيانًا إلى شعراء سابقين لا نكاد نعرف عنهم شيئًا1.