يتعارض، ولا يَختلف، فتضمّن الكتاب ذمّ الجدال، والأمرَ به، فعلمنا علمًا يقينًا أن الذي ذمّه غير الذي أمر به، وأن من الجدال ما هو محمود مأمورٌ به، ومنه مذمومٌ منهيّ عنه، فطلبنا البيان لكلّ واحد من الأمرين، فوجدناه تعالى قد قال: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]، وقال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ في آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 35]، فبيّن الله في هاتين الآيتين الجدال المذموم، وأعلمنا أنه الجدال بغير حجة، والجدال في الباطل.

فالجدال المذموم وجهان: أحدهما: الجدال بغير علم. والثاني: الجدال بالشَّغَب والتمويه؛ نُصرةً للباطل بعد ظهور الحقّ وبيانه، قال الله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5].

وأما الجدال المحقّ، فمن النصيحة في الدين، ألا ترى إلى قوم نوح عليه السلام حيث قالوا: {يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]، وجوابه لهم: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وعلى هذا جرت سُننٌ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأخرج بسنده عن أنس -رضي الله عنه- أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" (?).

فأوجب المناظرة للمشركين، كما أوجب النفقة والجهاد في سبيل الله، وعلّمنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَضَع السؤال موضعه، وكيفيّةَ المحاجّة في الحديث الذي ذَكَر فيه محاجّة آدم موسى عليهما السلام.

ثم أخرج بسنده عن طاوس، قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- يُحدّث عن النبيّ -صلى الله عليه وسلم-: "احتجّ آدم وموسى، فقال موسى يا آدم أنت أبونا خَيّبتنا، وأخرجتنا من الجنّة، فقال له آدم: يا موسى اصطفاك الله برسالته، وكتب لك التوراة بيده، لم تلومني على أمر قدّره الله عليّ قبل أن يخلقني

طور بواسطة نورين ميديا © 2015