فأنت ترى العرب الجاهليّة في تغيير ملّة إبراهيم عليه السلام كيف تأوّلوا فيما أحدثوه احتجاجًا منهم، كقولهم في أصل الإشراك: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} الآية [الزمر: 3]، وكترك الْحُمْس الوقوف بعرفةَ؛ لقولهم: لا نخرُج من الحرم اعتدادًا بحرمته، وطواف من طاف بالبيت عُريانًا قائلين: لا نطوف بثياب عصينا الله فيها، وما أشبه ذلك مما وجّهوه ليُصَيِّروه بالتوجيه كالمشروع.

فما ظنك بمن عَدّ، أو عُدّ نفسه من خواصّ أهل الملّة؟ فهم أحرى بذلك، وهم المخطئون، وظنّهم الإصابة، وإذا تبيّن هذا ظهر أن مضاهاة الأمور الشرعيّة ضروريّة الأخذ في أجزاء الحدّ.

وقوله: "يُقصَد بالسلوك عليها المبالغة في التعبّد لله تعالى" هو تمام معنى البدعة، إذ هو المقصود بتشريعها.

وذلك أن أصل الدخول فيها يحثّ على الانقطاع إلى العبادة والترغيب في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبيّن له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كاف، فرأى من نفسه أنه لا بدّ لما أُطلق الأمر فيه من قوانين منضبطة، وأحوال مرتبطة، مع ما يداخل النفوس من حبّ الظهور أو عدم مظنته، فدخلت في هذا الضبط شائبة البدعة.

وأيضًا فإن النفوس قد تَمَلُّ وتسأم من الدوام على العبادات المرتّبة، فإذا جُدّد لها أمر لا تَعْهَده حصل لها نشاط آخر لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول، ولذلك قالوا: لكلّ جديد لذّة، بحكم هذا المعنى، كمن قال: كما تُحْدَثُ للناس أقضية بغدر ما أحدثوا من الفجور، فكذلك تُحدَث لهم مرغِّبات في الخير بقدر ما حَدَثَ لهم من الفتور. وفي حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "فيوشك قائل أن يقول: ما هم بِمُتَّبِعيّ فيتبعوني، وقد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015