ولما كانت الطرائق في الدين تنقسم -فمنها ما له أصلٌ في الشريعة، ومنها: ما ليس له أصلٌ فيها- خُصّ منها ما هو المقصود بالحدّ، وهو القسم المخترع، أي طريقة ابتُدِعَت على غير مثال تقدّمها من الشارع، إذ البدعة إنما خاصّتها أنها خارجة عما رسمه الشارع. وبهذا القيد انفصلت عن كلّ ما ظهر لبادي الرأي أنه مخترع مما هو متعلّق بالدين، كعلم النحو والتصريف، ومفردات اللغة، وأصول الفقه، وأصول الدين، وسائر العلوم الخادمة للشريعة، فإنها وإن لم توجد في الزمان الأول فأصولها موجودة في الشرع:
إذ الأمر بإعراب القرآن منقول، وعلوم اللسان هادية للصواب في الكتاب والسنّة، فحقيقتها إذًا أنها فقه التعبّد بالألفاظ الشرعيّة الدالّة على معانيها، كيف تؤخذ وتؤدّي؟، وأصول الفقه إنما معناها استقراء كلّيّات الأدلّة حتى تكون عند المجتهد نُصب عينيه، وعند الطالب سهلة الملتمس، وكذلك أصول الدين، إنما حاصله تقرير لأدلّة القرآن والسنة، أو ما ينشأ عنها في التوحيد، وما يتعلّق به، كما كان الفقه تقريرًا لأدلتها في الفروع العباديّة.
[فإن قيل]: فإن تضمينها على ذلك الوجه مخترع.
[فالجواب]: أن له أصلًا في الشرع، ففي الحديث ما يدلّ عليه، ولو سُلّم أنه ليس في ذلك دليلٌ على الخصوص، فالشرع بجملته يدلّ على اعتباره، وهو مستمدّ من قاعدة المصالح المرسلة.
فعلى القول بإثباتها أصلًا شرعيًّا لا إشكال في أن كلّ علم خادم للشريعة داخل تحت أدلّته التي ليست بمأخوذ من جزئيّ واحد، فليست ببدعة البتة.
وعلى القول بنفيها لا بدّ أن تكون تلك العلوم مبتدعات، وإذا دخلت في علم البدع كانت قبيحة؛ لأن كلّ بدعة ضلالة من غير إشكال.
ويلزم من ذلك أن يكون كَتْبُ المصحف، وجمع القرآن قبيحًا، وهو باطل بالإجماع، فليس إذًا بدعةً.