وأما ما ظنّه أنه مخصوص من العموم فإنما هو في البدع اللغويّة، فإن البدعة قسمان:
[إحداهما]: شرعيّة، وهي التي أُحدثت بعد كمال الدين، وليس لها أصل في الكتاب، والسنة، والإجماع، فهذه ضلالة دون استثناء.
[والثانية]: لغويةٌ وهي أعمّ من الشرعيّة، إذ هي تشمل كل ما أُحدثت بعد النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سواء كان له أصل في الشرع أم لا، فكلما أورده النوويّ من الأمثلة، وظن أنه مخصوص من عموم هذا الحديث، فإنه من اللغويّة، لا من الشرعية.
والحاصل أن البدع التي ليس لها مستند من الأدلة الشرعية، فإنها بدعة شرعية ضلالة، وأن البدع التي لها أصل من الأدلة الشرعيّة، فهي من البدع اللغويّة، وليست من الضلالة في شيء، ويدلّ على هذا التقسيم الحديث المتّفق عليه: "من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ"، فقوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ليس منه" يدلّ على أن من المحدث ما هو من الشرع، وهو الذي تدلّ عليه الأدلة الشرعيّة، ومن ذلك قول عمر -رضي الله عنه-: "نعمت البدعة"، فإنه أراد به كونها بدعة لغويّة، وذلك لأن قيام رمضان رغّب فيه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، بل صلى بعض الليالي بأصحابه، ثم اعتذر إليهم بخشية أن يُفرَض عليهم، فلا يقومون به، فلما تُوفّي -صلى الله عليه وسلم-، رأى عمر -رضي الله عنه- أن الخشية ارتفعت، فجمعهم على إمام واحد، واستحسن منه ذلك معظم الصحابة -رضي الله عنهم-، ومنهم عثمان وعليّ رضي الله عنهما، فقد كان الناس يصلون جماعة في خلافتهما، وكذلك ما نقل عن الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى وغيره من تقسيم البدع إلى محمودة ومذمومة، فإنما أرادوا البدعة اللغوية، لا الشرعيّة، فافهم الفرق، ولا تكن أسير التقليد، فإنه حجة البليد، وملجأ العنيد، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
(وَكَانَ يَقُولُ) وفي رواية مسلم: "وكان يقول: أنا أولى بكلّ مؤمن من نفسه".
قال النوويّ رحمه الله: هو موافقٌ لقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] أي أحقّ، قال أصحابنا -يعني الشافعيّة-: لو كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- مضطرًا إلى طعام غيره، وهو مضطرّ إليه لنفسه كان للنبيّ -صلى الله عليه وسلم- أخذه من مالكه المضطرّ، ووجب على مالكه بذله له -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: ولكن هذا -وإن كان جائزًا- فما وقع. انتهى.