أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:76، 79].
فقد أخبر الله في كتابه أنه من حين بَزَغ الكوكب والقمر والشمس، وإلى حين أفولها لم يقل الخليل: لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات، ولا الحوادث، ولا قال شيئًا مما يقوله النفاة حين أفل الكوكب والشمس والقمر.
والأفول باتفاق أهل اللغة والتفسير هو الغيب، والاحتجاب، بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وهو المراد باتفاق العلماء، فلم يقل إبراهيم: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إلا حين أَفَلَ وغاب عن الأبصار، فلم يبق مرئيا، ولا مشهودًا، فحينئذ قال: {لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، وهذا يقتضي أن كونه متحركًا منتقلًا تقوم به الحوادث، بل كونه جسمًا متحيزًا تقوم به الحوادث، لم يكن دليلًا عند إبراهيم على نفي محبته، فإن كان إبراهيم إنما استدل بالأفول على أنه ليس رب العالمين -كما زعموا- لزم من ذلك أن يكون ما يقوم به الأفول من كونه متحركًا منتقلًا تحله الحوادث، بل ومن كونه جسمًا متحيزًا لم يكن دليلًا عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين، وحينئذ فيلزم أن تكون لا على تعيين مطلوبهم، وهكذا أهل البدع، لا يكادون يحتجون بحجة سمعية، ولا عقلية، إلا وهي عند التأمل حجة عليهم لا لهم، ولكن إبراهيم - عليه السلام - لم يقصد بقوله: {هذَا ربي} أنه رب العالمين، ولا كان أحدٌ من قومه يقولون: إنه رب العالمين، من تجويز ذلك عليهم، بل كانوا مشركين، مقرين بالصانع، وكانوا يتخذون الكواكب والشمس والقمر أربابًا، يدعونها من دون الله، ويبنون لها الهياكل، وقد صُنفت في مثل مذهبهم كتب، مثل "كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم"، وغيره من الكتب، ولهذا قال الخليل: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77] وقال تعالى {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ