يتوجه على المكلف ما دام في دار التكليف، فإن الأحكام حينئذ جارية عليهم، فيلام العاصي، ويقام عليه الحد والقصاص، وغير ذلك، وأما بعد أن يموت، فقد ثبت النهي عن سَبّ الأموات، "ولا تذكروا موتاكم إلا بخير"؛ لأن مرجع أمرهم إلى الله، وقد ثبت أنه لا يُثنى العقوبة على من أُقيم عليه الحد، بل ورد النهي عن التثريب على الأمة إذا زنت، وأقيم عليها الحد، وإذا كان كذلك، فلوم موسى لآدم إنما وقع بعد انتقاله عن دار التكليف، وثبت أن الله تاب عليه، فسقط عنه اللوم، فلذلك عَدَل إلى الاحتجاج بالقدر السابق، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه غلب موسى بالحجة.
قال المازريّ: لمّا تاب الله على آدم، صار ذكر ما صَدَرَ منه إنما هو كالبحث عن السبب الذي دعاه إلى ذلك، فأخبر هو أن الأصل في ذلك القضاء السابق، فلذلك غلب بالحجة.
قال الداودي فيما نقله ابن التين: إنما قامت حجة آدم؛ لأن الله خلقه ليجعله في الأرض خليفة، فلم يَحتَجّ آدم في أكله من الشجرة بسابق العلم؛ لأنه كان عن اختيار منه، وإنما احتج بالقدر لخروجه؛ لأنه لم يكن بُدٌّ من ذلك.
وقيل: إن آدم أب، وموسى ابن، وليس للابن أن يلوم أباه. حكاه القرطبي وغيره، ومنهم من عَبّر عنه بأن آدم أكبر منه، وتعقّبه بأنه بعيد من معنى الحديث، ثم هو ليس على عمومه، بل يجوز للابن أن يلوم أباه في عدة مواطن.
وقيل: إنما غلبه لأنهما في شريعيتن متغايرتين، وتُعُقّب بأنها دعوى لا دليل عليها، ومن أين يَعلَم أنه كان في شريعة آدم أن المخالف يحتج بسابق القدر، وفي شريعة موسى أنه لا يحتج، أو أنه يتوجه له اللوم على المخالف.
وفي الجملة فأصح الأجوبة الثاني والثالث، ولا تنافي بينهما، فيمكن أن يمتزج منهما جواب واحد، وهو أن التائب لا يُلام على ما تِيب عليه منه، ولا سيما إذا انتقل عن دار التكليف، وقد سلك النووي هذا المسلك، فقال: معنى كلام آدم: إنك يا موسى تَعلَم أن هذا كُتب عليّ قبل أن أُخلق، فلا بُدَّ من وقوعه، ولو حرصتُ أنا، والخلق