راجعًا إلى المقدارِ والبعدِ القائمِ بالجِسمِ، وكُلُّ جسمٍ معيَّنٍ لهُ مقدارٌ يخصُّهُ، والمقدارُ المطلَقُ كالجِسمِ المطلَق، وكلاهما لا يوجدُ مطلَقًا إلَّا في الذِّهن، فصارَ ما يعنونَهُ بالمادّةِ هنا ليسَ إلّا عرَضًا، كما أنَّ ما يعنونَهُ بالصُّورةِ هناكَ ليسَ إلّا عرَضًا، وهُم يسمُّونَ ذلكَ العِلّةَ والمعلولَ والماهيّةَ، فقد تبيَّنَ ما في لفظِ العِلّةِ والمعلولِ والماهيّةِ مِنْ هذا الأساس، وهذا في الطَّبيعيّاتِ التي هيَ أساسُ علمِهم، ومنها يأخذونَ أُصولَ براهينِهم؛ إذْ هيَ مشهودةُ الجزئيّاتِ معقولةُ الكُلِّيّات، فكيفَ الظَّنُّ إذا خاضُوا في المنطقِ الذي هوَ المعقولاتُ الثّابتةُ، وهوَ العِلمُ الإلهيُّ هنالكَ، يصير كلامهم {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 39، 40].
فإنَّ هذينِ المثلينِ مطابقٌ لجهلِهم المركَّبِ والبسيطِ؛ إذ هم وكُلُّ كافرٍ لا يخرجُ عَنْ هذينِ القِسمين، وهكذا ما ذكرتموهُ في المنطقِ والإلهيّاتِ الذي منهُ مادّةُ هذا الدَّليل، فإنَّ قولَكُم: الماهيّاتُ المختلفةُ الحقائقِ قد تتَّفقُ في أُمورٍ لازمةٍ أو عارضةٍ كاتِّفاقِ الإنسانِ والحيواناتِ في الحيوانيّة، أو في الغذاءِ والحرَكة، ثمَّ يقولونَ: ما اتفقَتْ فيهِ عارضٌ مِنْ عوارضِ ما اختلفَتْ فيه، والمختلفُ فيهِ هوَ العِلّةُ لما اتّفقَ فيهِ؛ إذْ يجوزُ اشتراكُ الحقائقِ المختلفةِ في أُمورٍ لازمةٍ عارضةٍ متَّفقةٍ، وقولكُم: الأُمورُ المتَّفقةُ بالحقيقةِ كالنَّوعِ يجوزُ أنْ يعرضَ لها أُمورٌ مختلفة كما يعرضُ لأشخاصِ النَّوعِ أنْ يكونَ هذا