أما نثره فلعله في ذروة كان أوج الفاضل لها حضيضا، ولا أرى أحدا يلحقه فيه جودة وسرعة عمل لما يحاوله في أي معنى أراد، وأي مقام توخاه، وأما نظمه فلعله لا يلحقه فيه إلا الأفراد، وأضاف الله تعالى إلى ذلك كله حسن الذوق الذي هو العمدة في كل فن) «1» .

كان ابن فضل الله العمري ذا ثقافة واسعة، قل أن يتحصل عليها غيره في شتى العلوم والفنون، كان علمه بالتاريخ منقطع النظير، فهو على دراية واسعة بتواريخ ملوك المغول من لدن جنكيز خان وهلمّ جرا، وكذلك بملوك الهند والأتراك، فضلا عن ملوك العرب من الخلفاء والأمراء، وكان متفردا بمعرفة المسالك والممالك وخطوط الأقاليم، ومواقع البلدان وخواصها، يشهد على ذلك كتابه (مسالك الأبصار) هذا، وكذلك علمه بمعرفة الاسطرلاب وحل التقويم وصور الكواكب، وبخطوط الأفاضل وأشياخ الكتابة.

انصرف العمري إلى الكتابة والتأليف، وترك وظائف الدولة، وأتيحت له حياة مستقرة مرفهة، فقد رتبت له مرتبات كثيرة بعد تركه عمل السلطان، وعاش في نعمة، وعمّر دارا هائلة بسفح قاسيون بالقرب من الركنية في شرقيها، ليس بالسفح مثلها. ولو امتد به العمر لأعطى عطاء كثيرا فوق عطائه الغزير، فقد توفي وهو في أوج نضجه الفكري والعلمي في الخمسين من العمر، وكانت وفاته بالطاعون، فقد وقع الطاعون بدمشق سنة تسع وأربعين وسبع مائة، ففرق من ذلك وعزم على الحج، واشترى الجمال وبعض الآلات، ثم إنه ترك ذلك وتوجه بزوجته ابنة عمه إلى القدس ومعهما ولداه، وصاموا هناك، فماتت زوجته بالقدس في شهر رمضان، وحضر إلى دمشق وهو طائر العقل، فيوم وصوله برد وحصل له حمّى أضعفته، فتوفي رحمه الله يوم عرفة سنة تسع وأربعين وسبع

طور بواسطة نورين ميديا © 2015