اشتقّت إما من النّظر، وإما من النّظير؛ فإن كان اشتقاقها من النظر، فمن حسن النظر أن يكون مقعدنا واحدا، حتى يتبين الفاضل من المفضول، ثم يتطاول السّابق ويتقاصر المسبوق؛ وإن كان من النظير، فأنا نظيرك وأنت نظيري، فلم تتصدر أنت وأنا أجلس بين يديك؟ فقضت الجماعة بما قضيت، وعضّ هذا الفاضل من تلك الحكمة، وانحطّ عن تلك العظمة، وقابلني بوجهه؛ فقلت:
أراك- أيّها الفاضل- حريصا على اللقاء، سريعا إلى الهيجاء، ولو زبنتك الحرب لم تزمزم؛ ففي أيّ علم تريد أن تناظر؟ فأومأ إلى النحو، فقلت: يا هذا، إنّ النّهار قد متع والوقت، قد ارتفع، والظّهر قد أزف؛ وإن قرعنا باب النحو، أضعنا اليوم فيه، فإذا خرج القوم، وعلا هتاف الناس: أيهما ردّ الجواب؟ هناك ما يدري المجيب، فإن شئت أن أناظرك في النحو، فسلّم الآن لي ما كنت تدعيه من سرعة في البديهة، وجودة في الروية، وقدرة على الحفظ، ونفاذ في الترسّل، ثم أنا أجاريك في هذا؛ فقال: لا أسلّم ذلك، ولا أناظر في غير هذا.
وارتفعت المضاجّة، واستمرت الملاجّة، حتى أتلع الأستاذ الفاضل أبو عمر إليه، وقال: أيّها الأستاذ، أنت أديب خراسان، وشيخ هذه الدّيار، وبهذه الأبواب التي قد عدّها هذا الشّابّ كنّا نعتقد لك السبق والحذق؛ وتثاقلك عن مجاراته فيها مما يتّهم ويوهم؛ واضطره إلى منازلة فيها أو نزول عنها، ومقارة فيها أو فرار بها؛ فقال: قد سلمّت الحفظ؛ فأنشدت قول القائل «1» : [الطويل]
ومستلئم كشّفت بالرّمح ذيله ... أقمت بعضب ذي سفاسق ميله
فجعت به في ملتقى الحيّ خيله ... تركت عتاق الطّير تحجل حوله