وقلت: يا أبا بكر خفف الله عنك، كما خففت عنّا في الحفظ؛ فقد كفيتنا مؤونة الامتحان، ولم تضغ وقتنا من الزّمان، فلو تفضّلت وسلّمت البديهة أيضا مع الترسّل حتى نفرغ للنّحو الذي أنت فيه أكبر، واللغة التي أنت بها أعرف، والعروض الذي أنت عليه أجرأ، والأمثال التي لك فيها السّبق والقدم، والأشعار التي أنت فيها مقدم؛ فقال: ما كنت لأسلم الترسل، ولا سلمت الحفظ؛ فقلت: الراجع في شيئه، كالراجع في قيئه؛ لكنّا نقيلك عن ذلك سماحا؛ فهات أنشدنا خمسين بيتا من قبلك مرتين، حتى أنشدك عشرين بيتا من قبلي خمسين مرة؛ فعلم أن دون ذلك خرط القتاد، تهاب شوكته اليد؛ فسلمّه ثانيا كما سلمه باديا، وصرنا إلى البديهة، فقال أحد الحاضرين: هاتوا على شعر أبي الشيص في قوله «1» : [الكامل]
أبقى الزّمان به ندوب عضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض
فأخذ أبو بكر يخضد ويحصد، مقدرا أنا نغفل عن أنفاسه، أو نوليه جانب وسواسه؛ ولم يعلم أنا نحفظ عليه الكلم، ثم نواقفه عليها؛ فقال «2» : [الكامل]
يا قاضيا ما مثله من قاض ... أنا بالذي تقضي علينا راض
فلقد لبست ضفيّة ملمومة ... من نسج ذاك البارق الفضفاض
لا تغضبنّ إذا نظمت تنفّسا ... إن الغضى في مثل ذاك تغاض
فلقد بليت بشاعر متقادر ... لا بل بليت بناب ذيب غاض
ولقد قرضت الشعر فاسمع واستمع ... لنشيد شعري طائعا وقراضي
فلأغلبن بديهه ببديهتي ... ولأرمين سواده ببياضي
فقلت: يا أبا بكر ما معنى «ضفية مملومة» وما الذي أردت بالبارق الفضفاض؟ فأنكر أن يكون قاله قافية؛ فواقفه على ذلك أهل المجلس، فقالوا: قد