يملكه، وأسلك من طريق الحلم ما لا يسلكه؛ ثم عطفت عليه، فقلت: يا أبا بكر، إنّ الحاضرين قد أعجبوا من حلمي بأضعاف ما أعجبوا من علمي، وتعجّبوا من عقلي، أكثر ممّا تعجبوا من فضلي؛ وبقي الآن أن يعلموا أنّ هذا السّكوت ليس عن عيّ، وأنّ تكلّفي للسّفه أشدّ استمرارا من طبعك، وغربي في السّخف أمتن عودا من نبعك؛ وسنقرع باب السّخف معك، ونفترع من ظهر السّفه مفترعك، فتكلّم الآن.
فقال: أنا قد كسبت بهذا [العقل] دية أهل همذان مع قلّته، فما الذي أفدت أنت بعقلك مع غزارته؟ فقلت: أما قولك: دية أهل همذان، فما أولاني بأن لا أجيب عنه، لكن هذا الذي به تتمدّح وتتبّجج، وتتشرّف وتتصلّف، من أنك شحذت فأخذت، وسألت فحصلت، وكديت فاقتنيت، فهذا عندنا صفة ذمّ، عافاك الله، ولأن يقال للرّجل: يا فاعل، يا صانع، أحبّ إليه من أن يقال: يا شحّاذ، يا مكدي؛ وقد صدقت، أنت في هذه الحلبة أسبق، و [في] هذه الحرفة أعرق؛ ولعمرك إنّك أشحذ، وأنت في الكدية أنفذ، وأنا قريب العهد بهذه الصّنعة، حديث الورد لهذه الشّرعة، مرمل اليد في هذه الرّقعة.
فأما مالك، فعندنا يهوديّ يماثلك في مذهبه، ويزنك بذهبه، وهو مع ذلك لا يطرقني إلّا بعين الرّهبة، ولا يمدّ إليّ إلّا يد الرّغبة؛ ولو كان الغنى حظا كريما لأخطأه مثل هذا العقل، ولو كان المال غنما لما أدرك بهذا السعي، ولكن عرّفني هل كنت فيما سلف من زمانك، ونبت من أسنانك، إلا هاربا بذمائك، مضرجا بدمائك، مرتهنا بقولك، بين وجنة موشومة، وجوارح مهشومة، ودار مهدومة، وخدود ملطومة؟ ومتى صفت مشارعك، أو أخصبت مراتعك، إلّا في هذه الأيّام القذرة؟ وستعرف غدك من بعد وتنكر أمسك، وتعلم قدرك في غد وتعرف نفسك، وما أضيع وقتا قطعته بذكرك، ولسانا دنسته باسمك.