ما من أحد إلا ويحدث له التطير، بل إنني قد أسمع كلمة من رجل فأجد في قلبي انقباضاً من هذه الكلمة، ثم أرجع وأقول: أعوذ بالله من الجاهلية التي نحن فيها، وأقول: اللهم لا خير إلا خيرك، فما من أحد إلا ويأتي له هذا الهاجس وهذه الوساوس التي من الشيطان، وقد حدث ذلك مع من هو خير منا، فقد حدث مع الصحابة، بل يقول ابن القطان حديثياً: بل حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا مختلف فيه في مسألة الإدراج كما سنبين، أقول: إذا تطير المرء أو جاء الشيطان وجثم على قلبه وصدره، فوسوس له بهذه العقيدة الفاسدة أو بهذا التشاؤم فلا بد أن يعالج هذا الأمر، ولا بد أن نفرق أولاً في المسألة بين العمل بالطيرة وبين تحديث النفس، فالمرء يؤاخذ بالعمل ويحاسب عليه، ولا يؤاخذ المرء بتحديث النفس، ودليل ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم) ولذلك نقول: الوسوسة والخاطرة التي تأتي في القلب بالتشاؤم هذا لا يحاسب عليه المرء حتى يترجم ذلك إلى عمل، والدليل على ذلك الحديث الذي فيه شيءٌ من الضعف، لكن يستأنس به وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة ما أمضاك أو ردك).
إذاً: الطيرة مقياسها أن تُحدث في نفسك التشاؤم أو التفاؤل، فتمضي قدماً أو تتراجع، فما حدث المرء به نفسه فعليه أن يزيله، فيعالجه بثلاثة أمور: أولاً: صدق التوكل على الله جل في علاه، وهو أن يعتقد المرء اعتقاداً جازماً بأن خزائن السماوات والأرض بيد الله جل في علاه، وبأن الله هو النافع والضار لا أحد غيره، فمن توكل على الله حق التوكل فقلبه معلق بمن فوق العرش الذي يدبر شئون الدنيا بأسرها، كذلك من وثق بالله تمام الثقة مع صدق الاعتماد على الله جل في علاه بجلب المنفعة ودفع المضرة فإنه لا يعتمد لا على طير ولا بشر ولا شجر ولا حجر وهذا أول علاج، ودليل ذلك حديث ابن مسعود في سنن أبي داود وفي غيرها من السنن بسند صحيح قال ابن مسعود: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الطيرة شرك الطيرة شرك -أكد ثم قال-: وما منا من أحد إلا -يعني: تسقط في قلبه هذه الوساوس-ولكن يذهبه الله بالتوكل).
فلم يذكر الداء إلا وذكر معه الدواء، وهذا باب واسع جداً في هذا الشرع الحنيف، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء) وهذا يبين أن هذا الدين متكامل في كل شيء؛ فهو ما ذكر ترهيباً إلا وذكر ترغيباً، وما ذكر ناراً إلا وذكر جنة، وما ذكر داءً إلا وذكر دواء، وما أغلق باب شر إلا وفتح باب خير، مثال ذلك: (لما جاء بلال بتمر جنيب -أي: تمر جيد- إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا يا رسول الله إنا نأخذ الصاع من هذا بصاعين من ذلك) فلما قال للنبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام تأوه منه، وهذا يبين أن الصحابة قد يقعون في الخطأ، لعدم علمهم، فيعذرون بجهلهم، ثم يتعلمون فيتداركون الأمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أوه، هذا عين الربا لا تفعل هذا) يعني: إن فتح باب الربا يفتح باباً من أبواب النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم أغلق عليه باب المبادلة، مع أنهم يحتاجون إلى أكل التمر الطيب، لكنه فتح لهم باباً آخر أباحه الشرع الحنيف فقال (يا بلال بع الجمع -الرديء- بالدراهم واشتر بالدراهم جنيباً) والآن تجد المرأة تذهب إلى سوق الذهب لتبديل الخاتم أو الإسورة المتكسرة، أو يأخذها زوجها ويقوم بتبديل المتكسر من الذهب بالسليم مع دفع الفارق، وبفعله هذا يقع في الربا وهو لا يدري، فنقول له: لا تبدل ذهباً بذهب مع الفرق؛ لأن هذا عين الربا، وإذا علمت المرأة بأنه ربا صرخت في زوجها وقالت: ماذا أفعل؟ فقال لها: أسأل أهل العلم، فسأل أهل العلم، فقالوا له: هذا عين الربا، لكن بع المكسر بالدراهم واشترِ بالدراهم الذهب الجديد.
فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا ويبين لنا أن الدين الحنيف إذا أغلق باباً من الشر فتح لنا باباً آخر من الخير.
السبب الثاني في العلاج: أن تقول: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك) وهذا الدعاء لا بد أن يلتزمه المرء إذا طرأ على قلبه هذه الوسوسة.