اختلف فيها أهل السنة والجماعة على قولين: القول الأول: أنها صحيحة، واستدلوا على ذلك بعمومات أدلة النفع للآخرين، كقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]، قالوا: وعلاج المريض من باب البر فهو يدخل تحت الآية، واستدلوا أيضاً بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وهذا فيه نفع؛ لأنه سيحل عنه السحر، وسيحل عنه الربط عن زوجه، فإنه ينفعه بذلك، وقالوا: هذه هي فتوى أعلم التابعين على الإطلاق سعيد بن المسيب، وهو من فقهاء المدينة السبعة، وهم بحار العلم وأعلمهم هو سعيد بن المسيب، وأفضل التابعين هو أويس القرني وهو أعبدهم.
ولذلك قال: أحمد بن حنبل أعلم التابعين على الإطلاق سعيد بن المسيب، وقد سئل سعيد بن المسيب عن رجل مسحور ربط عن زوجه أنحل عنه السحر بالسحر؟ فقال: نعم افعلوا ذلك؛ فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، وهذا من باب النفع، وقالوا هذا هو فعل الصحابة الأخيار، فهذه أفضل النساء على الإطلاق وأفقه الصحابيات على الإطلاق عائشة رضي الله عنها وأرضاها سحرتها جارية، فلما سحرتها أعيت عائشة بذلك، فجاء رجل من الهند أو السند فسمع به ابن أخيها، فذهب إليه فقال له: عائشة مريضة، فقال: هي مسحورة سحرتها جارية لها، قالوا فـ عائشة بعثت بابن أخيها إلى الساحر، فقال: هي مسحورة سحرتها جارية وفي حجرها صبي ووصف السحر الذي سحرت به عائشة رضي الله عنها وأرضاها فلو كان حراماً ما فعلت ذلك رضي الله عنها وأرضاها، هذا من ناحية الأثر.
وأما من ناحية النظر والعقل: فإن الله جل في علاه حرم أكل الميتة، قال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:173]، فأحلت الميتة من أجل الضرورة، وهذا المسحور في ضرورة فيحل له السحر بالسحر من باب الضرورة؛ قياساً على أكل الميتة.
القول الثاني: أنه حرام، ولا يجوز بحال من الأحوال وإن كان فيه نفع للناس، والأدلة على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عندما سألوه: (أفنأتي الكهان قال: لا، لا تأتوا الكهان)، و (لا) هنا للتحريم؛ لأن الأصل في النهي التحريم.
وفي رواية أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم (من أتى عرافا أو كاهنا فسأله لم تقبل منه صلاة أربعين يوماً)، فهذا حال من سأله فقط ولم يصدقه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في مسند أحمد (من أتى عرافاً أو كاهناً فسأله فصدقه فقد كفر)، وهذا الكفر مخرج من الملة، ووجه إخراجه من الملة أنه صدق بأن الكاهن له صفة من صفات الربوبية؛ لأنه لا يعلم الغيب إلا الله، وهو حين صدق الكاهن بأمور غيبية كأنه نحله صفة من صفات الربوبية.
وفي رواية الطبراني أو في غيره بسند ضعيف (من أتى عرافاً أو كاهناً أو ساحراً)، فصرح بالساحر، فهذه أدلة عامة تثبت حرمة إتيان الكهنة والسحرة.
وأما الأدلة الخاصة فهي كالتالي: قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن النشرة التي هي حل السحر بالسحر: (لا إنما هي من عمل الشيطان)، وهذا أشد في الزجر وأشد في الحرمة.
أما من جهة النظر: أولاً: أننا إذا أبحنا للمرء أن يحل السحر بالسحر فقد أقررنا ضمنا بفعل الكهان والسحرة.
ثانياً: أن حل السحر بالسحر ذريعة إلى الاعتقاد بالساحر والكاهن ما لا يعتقد إلا بالأخيار الأماجد، فإنهم سيعتقدون فيه غير ما هو عليه من السوء والمنكر.
ثالثاً: أنك ستذهب إليه فلا تنكر عليه ما هو فيه من المنكر والباطل من السحر والكهانة.
إذاً: فهذه أدلة صريحة صحيحة في حرمة إتيان الكهنة، وأيضاً حرمة حل السحر بالسحر، وهذا هو الذي اتفقت عليه كلمة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.