فهؤلاء الذين ضارعوا أهل الكفر في أفعالهم ما قالوا تبجحاً كما قال أهل الجاهلية من قبل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، بل لبسوا الأمر، كما قال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121] فقالوا: نحن نتوسل بهم إلى الله، فغيروا الاسم والمعنى باقٍ لم يتغير وقد كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم زيفهم، فقال: (يأتي زمان على أمتي يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها) وقد يأخذون الرشوة فيسمونها إكرامية أو قهوة، فهو قالب واحد وقد أصل لنا النبي صلى الله عليه وسلم تأصيلاً عاماً، وهو: إن تغيير الأسماء لا يغير حقائق المسميات، فإن قال المجوزون للتوسل: نحن نتوسل بهم ولا نعبدهم، قلنا: لا، أنتم تعبدونهم ليقربوكم إلى الله زلفى، فإن قالوا: لا إنما نتوسل بهم، وعندنا الأدلة على ذلك، قلنا: ما أدلتكم؟ قالوا: أولاً: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة:35]، فوجه الدلالة من هذه الآية قوله: ((اتَّقُوا اللَّهَ)) [المائدة:35] والتقوى معناها: فعل المأمور وترك المحظور وهذه بالفعال.
الثانية: ((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)) أي: بالذوات؛ لأن الأصل في اللغة العربية أن الكلام لا يكرر، فالأصل التأسيس لا التأكيد، فقالوا: أسس أولاً: التوسل بالفعال بالتقوى، بفعل المأمور وترك المحظور، ثم أسس أصلاً ثانياً وهو التوسل بالذوات، وصرح وقال: ((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ))، ثم قال: ((وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ)).
والآية الثانية قالوا: قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64].
فالله جل في علاه يأمر أمراً حاسماً على عباده، والأصل في الأمر الوجوب، ((وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ))، وما منا من أحد إلا ويظلم نفسه، فإن العبد خطاء، فقالوا في قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} أن (جاءوك) هنا على العموم فتكون جاءوك حياً أو ميتاً، فسواءٌ جاءوك حياً فاستغفرت لهم، أو جاءوك ميتاً وأنت تسمع كلامهم ودعاءهم، وتعلم ما هم فيه، فاستغفروا الله وطلبوا منك الاستغفار فإن الله سيغفر لهم.
وأما الدليل من السنة.
فحديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً أعمى جاء إلى رسول صلى، فقال له: يا رسول الله! ادع الله أن يرد علي بصري.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت لك، فذهب الرجل، فنصحه النبي صلى الله عليه وسلم قال: اذهب فتوضأ، ثم استقبل القبلة، فقل: اللهم إني أسألك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد يا نبي الرحمة إني أسأل الله بك، اللهم شفعه في، وشفعني فيه).
فدعا الله جل في علاه بهذا الدعاء، فرد الله عليه بصره، قالوا: فهذا الرجل قد توسل بالنبي.
ووجه الشاهد قوله: أسألك بنبيك.
أي: بذات نبيك، فإن هذا هو الأصل، والقاعدة عندنا وعندكم: أن الأصل في اللفظ يبقى على ظاهره حتى تأتي قرينة تصرفه من الظاهر إلى المؤول.
إن أهل الجاهلية صرفوا الدعاء الذي هو عبادة لغير الله وقالوا: نحن نعبدهم، ولكن ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقلنا لهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم وضح بأن هذا من الكفر.
أما أهل جاهلية العصر فقد فعلوا ما فعل أهل الجاهلية لكنهم اختبئوا وقالوا: نحن لا نعبد إلا الله، لكنا نتخذ وسائلاً، كما أمرنا الله: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]، نتقرب بها إلى الله جل في علاه، وعندنا أدلة على ذلك.