القول الراجح والصحيح من هذه الأقوال هو القول الثاني وهو: أنه لا يشرع التبرك بآثار الصالحين، لكن قد يعترض علينا بأن أبا بكر ورد في فضله وبركته أن أسيد بن حضير عندما نزلت آية التيمم قال: (ليس هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر) الراجح -كما ذكرت- هو القول الثاني: وهو أنه لا يجوز التبرك بآثار الصالحين؛ لأمور عدة أهمها وأقواها: سدّ الذريعة؛ لأننا لو أبحنا التبرك بآثار الصالحين فسيحدث الغلو في الصالحين, والغلو في الصالحين يرتقي بالمرء إلى أن يشرك بالله جل في علاه، والغلو في الصالحين مشاهد، فمنهم من يقدم الولي على النبي, ومنهم من يقول: إن الولي يتحكم في الكون, ومنهم من يقول: إن الله أعطى للولي قوة لم يعطها لأحد؛ لا ملك مقرب ولا نبي مرسل, بل إن الولي يرتقي مرتقى صعباً، كيف ذلك؟ يقولون: إن الولي عندما يصفو قلبه ويصل لدرجة اليقين فليفعل ما شاء من شرب الخمر والدخان والزنا؛ لأن القلم قد رفع عنه, فإذا بلغ درجة اليقين سقطت عنه التكاليف, ويستدلون بقول الله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
فالغلو ذريعة أيضاً للاعتقاد في الأموات وسؤالهم من دون الله جل في علاه, فهذا أقوى الأدلة على المنع من التبرك بغير النبي صلى الله عليه وسلم.
والدليل الثاني: أن أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلوا ذلك, فلم يفعله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا ابن عمر ولا ابن عباس ولا أفاضل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم, ولما لم يفعلوه دل ذلك على أحد أمرين: الأمر الأول: أنهم علموه وتقاعسوا عن الخير, وحاشاهم فهم أسبق الناس للخير, وأحرص الناس على الخير.
الأمر الثاني: أنهم لم يعلموه، أو أنهم علموا أنه ممنوع, فإن قلنا: لم يعلموه فهذا بعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم كل شيء, إذاًَ فيبقى أنهم علموا أنه ممنوع، فيسعنا ما وسعهم, فنعمل ما عملوا ونكف عما كفوا, ولا خير في ابتداع من خلف، والخير كل الخير في اتباع من سلف.
إذاً: فالراجح الصحيح سداً للذريعة أن نقول: بأن التبرك بآثار الصالحين مرجوح ولا يصح أن يباح لأحد غير النبي صلى الله عليه وسلم.
والتحنيك تبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، قال النووي: وهذا دليل على أنه يتبرك بالصالحين في تحنيك الطفل, يعني: يجوز أن يذهب الشخص بطفله إلى الصالحين والأولياء والأبرار ليحنكوه.
فنقول: لا يجوز التبرك بآثار الصالحين؛ لأنه إن كان سنة ولم يفعله أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا ابن عباس ولا ابن عمر ولا الزبير ولا عبد الله بن الزبير ولا الأفاضل الأخيار من الصحابة, فإما أن تتهم الصحابة بالتقاعس عن السنة, وإما أن تقول: هم لم يفعلوه إذاً فليس بسنة.
فإن قالوا: عدم النقل ليس نقلاً للعدم، فنقول: إن كان التحنيك تبركاً فهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن التبرك لا يتعدى إلى غيره, وإن كان من أجل الطب فهو جائز، وهذا هو الذي رجحه ابن القيم، وهو أن الحلو إذا دخل في المعدة ففيه فوائد جمة للقلب وللمعدة ولغيرهما من الأجهزة, ويمكن لنا أن نخرج قولاً آخر وهو أن التحنيك نفسه سنة فعلية, لكن التبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا تبرك بآثار الصالحين, والتحنيك سنة, والتبرك خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك على أنه سنة وطب فله ذلك, ومن فعله معتقداً البركة في الأولياء والصالحين فلا يجوز له ذلك؛ لأن الراجح أن التبرك بآثار الصالحين لا يصح بحال من الأحوال.