الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الِاغْتِرَافَ مِنَ الْمَاءِ الْقَلِيلِ لَا يَجْعَلُ الْمَاءَ مُسْتَعْمَلًا، وَفِيهِ أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِهِمَا غَسْلُ أَيْدِيهِمَا خَارِجَ الْإِنَاءِ، ثُمَّ تَنَاوَلُهُمَا الْمَاءَ. قَالَ مِيرَكُ: وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ قَدَحٍ فَقِيلَ: " مِنْ " الْأُولَى ابْتِدَائِيَّةٌ وَالثَّانِيَةُ بَيَانِيَّةٌ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: مِنْ قَدَحٍ بَدَلَ مِنْ إِنَاءٍ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ، فَـ " مِنَ " الثَّانِيَةُ تَعْلِيلِيَّةٌ أَيْ مِنْ أَجْلِهَا وَبِسَبَبِهَا. قَالَ ابْنُ التِّينِ: كَانَ هَذَا الْإِنَاءُ مِنْ شَبَهٍ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ وَالْمُوَحَّدَةِ نُحَاسٌ أَصْفَرُ، وَكَانَ مُسْتَنَدُهُ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ وَلَفْظُهُ: مِنْ تَوْرٍ مِنْ شَبَهٍ، وَالتَّوْرُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ إِنَاءٌ يُشْرَبُ فِيمَا يُذْكَرُ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ: مِنْ إِنَاءٍ يُقَالُ لَهُ الْفَرَقُ، وَهُوَ بِفَتْحَتَيْنِ، وَيُرْوَى بِتَسْكِينِ الرَّاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِهِ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ، وَقِيلَ: صَاعَانِ، وَيُؤَيِّدُ الْأَوَّلُ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِ: قَدْرُهُ سِتَّةُ أَقْسَاطٍ، وَالْقِسْطُ بِكَسْرِ الْقَافِ نِصْفُ صَاعٍ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ التَّوْرِ وَالْفَرَقِ أَنَّ الْفَرَقَ كَانَ مَوْضُوعًا، وَالتَّوْرُ جُعِلَ آلَةً لِلْفَرَقِ، وَبِهِ بَطَلَ اسْتِدْلَالُ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ بِكُلِّ حَالٍ، هَذَا وَاخْتَارَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ اغْتِسَالِ الرَّجُلِ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ وَعَكْسِهِ، وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ. وَبَعْضُهُمْ عَلَى جَوَازِ طَهَارَةِ الْمَرْأَةِ بِفَضْلِ الرَّجُلِ دُونَ الْعَكْسِ، وَقَيَّدَ بَعْضُهُمُ الْمَنْعَ فِيمَا إِذَا خَلَيَا بِهِ، وَالْجَوَازُ فِيمَا إِذَا اجْتَمَعَا، وَتَمَسَّكَ كُلٌّ بِظَاهِرِ خَبَرٍ دَلَّ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ الْجَمِيعِ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بِحَمْلِ النَّهْيِ عَلَى مَا تَسَاقَطَ مِنَ الْأَعْضَاءِ، وَالْجَوَازِ عَلَى مَا بَقِيَ فِي الْإِنَاءِ بِذَلِكَ جَمَعَ الْخَطَّابِيُّ، وَجَمَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْجَوَازَ فِيمَا إِذَا اغْتَرَفَا مَعًا، وَالْمَنْعُ فِيمَا إِذَا اغْتَرَفَ أَحَدُهَا قَبْلَ الْآخَرِ. قُلْتُ: وَلَمْ يَظْهَرْ فَرْقٌ عَلَى هَذَا الْجَمْعِ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: يُحْمَلُ النَّهْيُ عَلَى مَا إِذَا تَسَاقَطَ الْمَاءُ مِنَ الْأَعْضَاءِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي الْإِنَاءِ، وَالْجَوَازُ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ، وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُهُمُ النَّهْيَ عَلَى التَّنْزِيهِ وَالْفِعْلَ عَلَى الْجَوَازِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَكَانَ لَهُ) : أَيْ لِرَأْسِهِ الشَّرِيفِ (شَعْرٌ) : أَيْ نَازِلٌ (فَوْقَ الْجُمَّةِ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَا سَقَطَ مِنَ الْمَنْكِبَيْنِ (وَدُونَ الْوَفْرَةِ) : بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْفَاءِ بَعْدَهُ رَاءٌ مَا وَصَلَ إِلَى شَحْمَةِ الْأُذُنِ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ وَالنِّهَايَةِ وَشَرْحِ السُّنَّةِ، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَعْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَمْرًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْجُمَّةِ وَالْوَفْرَةِ، وَلَيْسَ بِجُمَّةٍ وَلَا وَفْرَةٍ إِذْ مَعْنَى فَوْقَ الْجُمَّةِ أَنَّ شَعْرَهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى مَحَلِّ الْجُمَّةِ وَهُوَ الْمَنْكِبُ، وَمَعْنَى (دُونَ الْوَفْرَةِ) أَنَّ شَعْرَهُ كَانَ أَنْزَلَ مِنْ شَحْمَةِ الْأُذُنِ، لَكِنْ جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَظِيمَ الْجُمَّةِ إِلَى شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ» ، وَهَذَا ظَاهِرُ أَنَّ شَعْرَهُ كَانَ جُمَّةً، وَعَلَى أَنَّ جُمَّتَهُ مَعَ عِظَمِهَا إِلَى أُذُنَيْهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ اهـ. (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ) : أَيْ فِي جَامِعِهِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَرَوَاهُ فِي شَمَائِلِهِ أَيْضًا بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَتْ: «كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوْقَ الْوَفْرَةِ دُونَ الْجُمَّةِ» ، كَذَا فِي جَامِعِ الْأُصُولِ، قَالَ مِيرَكُ: كَذَا وَقَعَ فِي الشَّمَائِلِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: فَوْقَ الْوَفْرَةِ دُونَ الْجُمَّةِ، قِيلَ: وَهُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا الْعِرَاقِيُّ فِي شَرْحِ جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ، بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: فَوْقَ وَدُونَ تَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَحَلِّ، وَتَارَةً بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمِقْدَارِ، فَقَوْلُهُ: فَوْقَ الْجُمَّةِ أَيْ أَرْفَعَ مِنْهَا فِي الْمَحَلِّ، وَدُونَ الْجُمَّةِ أَيْ أَقَلَّ مِنْهَا فِي الْمِقْدَارِ، وَكَذَا فِي الْعَكْسِ. قَالَ الْعَسْقَلَانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَهُوَ جَمْعٌ جَيِّدٌ لَوْلَا أَنَّ مَخْرَجَ الْحَدِيثِ مُتَّحِدٌ مَعْنًى اهـ. قَالَ الْحَنَفِيُّ: فِيهِ بَحْثٌّ لِأَنَّ مَآلَ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مُتَّحِدٌ مَعْنًى، وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْعِبَارَةِ، فَلَا يَقْدَحُ فِيهِ اتِّحَادُ مَخْرَجِ الْحَدِيثِ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَوْ مَنْ دُونَهَا أَدَّتْ أَوْ أَدَّى مَعْنًى وَاحِدًا لِعِبَارَتَيْنِ وَلَا غُبَارَ عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: لَعَلَّ اغْتِسَالَ عَائِشَةَ وَرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ وَقَعَ مُتَعَدِّدًا، وَيَكُونُ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ نَاشِئًا مِنِ اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ اهـ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ جُمْلَةَ: وَكَانَ. . إِلَخْ. حَالٌ، وَأَمَّا إِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ، فَلَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالِاغْتِسَالِ، وَيَكُونُ الْمَرْوِيُّ حَدِيثَيْنِ مُسْتَقِلَّيْنِ، وَإِنْ كَانَا وَقَعَا مُتَعَاطِفَيْنِ، مَعَ أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ صِحَّةِ مَا قَالَ مِنَ الْحَالِ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ اغْتِسَالٍ يَخْتَلِفُ الْحَالُ، وَهُوَ غَيْرُ مُلَائِمٍ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى ذَوِي النَّهْيِ، ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ ابْنَ حَجْرٍ ذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي شَمَائِلِهِ بِلَفْظِ: وَأَنْزَلَ مِنَ الْوَفْرَةِ. قَالَ: أَيْ مِنْ مَحَلِّهَا وَهُوَ شَحْمَةُ الْأُذُنِ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ بِمَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ فِي نَسْخٍ هُنَا فَوْقَ الْجُمَّةِ دُونَ الْوَفْرَةِ، وَهَذِهِ عَكْسُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ اهـ. وَقَوْلُهُ: " أَنْزَلَ مِنَ الْوَفْرَةِ " غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُصُولِ الْمُعْتَمَدَةِ، وَالنُّسَخِ الْمُصَحَّحَةِ، وَلَا أَحَدَ مِنَ الشُّرَّاحِ أَيْضًا ذَكَرَهُ.