وَاعْلَمْ أَنَّ طِيبَ الْمَطْعَمِ لَهُ خَاصِّيَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَتَأْكِيدُ اسْتِعْدَادِهِ لِقَبُولِ أَنْوَارِ الْمَعْرِفَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بِنَاءَ الْأَمْرِ بَعْدَ حِفْظِ السُّنَّةِ وَمُجَانَبَةِ كُلِّ صَاحِبٍ يُفْسِدُ الْوَقْتَ، وَكُلِّ سَبَبٍ يَفْتِنُ الْقَلْبَ عَلَى صَوْنِ الْيَدِ عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ، وَأَقَلُّهُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِمَّا حَرَّمَهُ فَتْوَى الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ وَرَعُ الْعَامَّةِ، ثُمَّ يَمْتَنِعَ عَمَّا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ احْتِمَالُ التَّحْرِيمِ، وَإِنْ أَفْتَى الْمُفْتِي بِحِلِّهِ، وَهُوَ وَرَعُ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ تَرَكَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ مَخَافَةَ مَا فِيهِ بَأْسٌ، وَهُوَ وَرَعُ الْمُتَّقِينَ، ثُمَّ الْحَذَرُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يُرَادُ بِتَنَاوُلِهِ الْقُوَّةَ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، أَوْ يَتَطَرَّقُ إِلَى بَعْضِ أَسْبَابِهِ مَعْصِيَةٌ أَوْ كَرَاهَةٌ، وَهُوَ وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ. هَذَا وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُوجَدُ الْحَلَالُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَلْيَكْتَفِ السَّالِكُ مِنْ غَيْرِهِ بِمَا يَحْفَظُ رَوْعًا لِئَلَّا يَمُوتَ جُوعًا قَالَ بَعْضُ الظُّرَفَاءِ:
يَقُولُ لِيَ الْجَهُولُ بِغَيْرِ عِلْمٍ ... دَعِ الْمَالَ الْحَرَامَ وَكُنْ قَنُوعًا
فَلَمَّا لَمْ أَجِدْ مَالًا حَلَالًا ... وَلَمْ آكُلْ حَرَامًا مِتُّ جُوعًا
لَكِنْ يَجِبُ أَنْ يُرَاعَى دَرَجَاتُ الْحَرَمِ وَالشُّبْهَةِ فَمَهْمَا وَجَدَ مَا يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْحَلَالِ لَا يَتَنَاوَلُ مِمَّا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْهُ، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: الْمُضْطَرُّ إِذَا وَجَدَ غَنَمًا مَيْتًا فَلَا يَأْكُلْ مِنَ الْحِمَارِ الْمَيِّتِ، وَإِذَا وَجَدَ الْحِمَارَ فَلَا يَتَنَاوَلُ مِنَ الْكَلْبِ، وَإِذَا وَجَدَ الْكَلْبَ لَا يَقْرَبُ مِنَ الْخِنْزِيرِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ كَسُفَهَاءِ الْفُقَهَاءِ حَيْثُ يَقُولُونَ: الْحَلَالُ مَا حَلَّ بِنَا، وَالْحَرَامُ مَا حَرُمَ مِنَّا. (رَوَاهُ مُسْلِمٌ) .