- تَعَالَى - خَلَقَ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا لِعَبِيدِهِ، كَمَا قَالَ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] وَأَنَّهُ خَلَقَ عَبِيدَهُ لِمَعْرِفَةٍ وَطَاعَةٍ كَمَا قَالَ - تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدَ مِنْهُمْ مَنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56 - 57] (ثُمَّ ذَكَرَ ": أَيِ: الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الرَّجُلَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَفِي نُسْخَةٍ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ لِلْمَفْعُولِيَّةِ (يُطِيلُ السَّفَرَ) : أَيْ: زَمَانَهُ وَيُكْثِرُ مُبَاشَرَتَهُ فِي الْعِبَادَاتِ، كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالْجِهَادِ وَتَعَلُّمِ الْعِلْمِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْخَيْرَاتِ. (أَشْعَثَ، أَغْبَرَ) : حَالَانِ مُتَدَاخِلَانِ، أَوْ مُتَرَادِفَانِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (يَمُدُّ يَدَيْهِ) : أَيْ مَادًّا يَدَيْهِ رَافِعًا بِهِمَا (إِلَى السَّمَاءِ) : لِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ قَائِلًا مُكَرِّرًا (يَا رَبِّ! يَا رَبِّ!) : فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِلَفْظِ الرَّبِّ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِجَابَةِ لِإِيذَانِهِ بِالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ وَجُودَهُ فَائِضٌ عَنْ تَرْبِيَتِهِ وَإِحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَلِذَا قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ حَزَبَهُ أَمْرٌ فَقَالَ خَمْسَ مَرَّاتٍ: رَبَّنَا نَجَّاهُ اللَّهُ مِمَّا يَخَافُ، وَأَعْطَاهُ مَا أَرَادَ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَكَى عَنْهُمْ فِي آلِ عِمْرَانَ: أَنَّهُمْ قَالُوا خَمْسًا (] فَاسْتَجَابَ [لَهُمْ رَبُّهُمْ) (وَمَطْعَمُهُ) : مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَوِ اسْمُ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ، طَعَامُهُ (حَرَامٌ) : وَالْجُمْلَةُ حَالٌ أَيْضًا، وَكَذَا قَوْلُهُ (وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ) : بِضَمِّ الْغَيْنِ وَكَسْرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمُخَفَّفَةِ، كَذَا ضَبَطَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ، وَفِي نُسَخِ الْمَصَابِيحِ: وَقَعَتْ مُقَيَّدَةً بِالتَّشْدِيدِ، كَذَا ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ كَذَلِكَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْمِشْكَاةِ وَالْمَعْنَى رُبِّيَ (بِالْحَرَامِ) : أَيْ: مِنْ صِغَرِهِ إِلَى كِبَرِهِ.
قَالَ الْأَشْرَفُ: ذُكِرَ قَوْلُهُ: " وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ " بَعْدَ قَوْلِهِ " وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ " إِمَّا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِمَّنْ كَوْنُ الْمَطْعَمُ حَرَامًا التَّغْذِيَةُ بِهِ، وَإِمَّا تَنْبِيهًا بِهِ عَلَى اسْتِوَاءِ حَالَيْهِ، أَعْنِي كَوْنَهُ مُنْفِقًا فِي حَالِ كِبَرِهِ وَمُنْفَقًا عَلَيْهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ فِي وُصُولِ الْحَرَامِ إِلَى بَاطِنِهِ، فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: " مَطْعَمُهُ حَرَامٌ " إِلَى حَالِ كِبَرِهِ وَبِقَوْلِهِ: " وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ " إِلَى حَالِ صِغَرِهِ، وَهَذَا دَالٌّ عَلَى أَنْ لَا تَرْتِيبَ فِي الْوَاوِ، وَذَهَبَ الْمُظْهِرُ إِلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، وَرَجَّحَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَجْهَ الْأَوَّلَ، وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عَدَمَ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ مُصِرًّا عَلَى تَلَبُّسِ الْحَرَامِ وَاللَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمُ بِالْمَرَامِ. قَالَ الْأَشْرَفُ: " يُطِيلُ " مَحَلُّهُ نَصْبُ صِفَةٍ لِلرَّجُلِ، لِأَنَّ جِنْسَ الْمَعْرِفَةِ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ كَقَوْلِهِ: (
وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي
) قُلْتُ: وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قَوْلُهُ: ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ - يُرِيدُ الرَّاوِي - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّبَ كَلَامَهُ بِذِكْرِ الرَّجُلِ الْمَوْصُوفِ اسْتِبْعَادًا، أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقْبَلُ دُعَاءَ آكِلِ الْحَرَامِ لِبُغْضِهِ الْحَرَامَ، وَبُعْدِ مُنَاسَبَتِهِ عَنْ جَنَابِهِ الْأَقْدَسِ، فَأَوْقَعَ فِعْلَهُ عَلَى الرَّجُلِ وَنَصَبَهُ، وَلَوْ حَكَى لَفْظَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَفَعَ الرَّجُلَ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ يُطِيلُ، وَقَوْلُهُ: أَشْعَثَ وَأَغْبَرَ حَالَانِ مُرَادِفَتَانِ مِنْ فَاعِلِ يَمُدُّ أَيْ يَمُدُّ يَدَيْهِ قَائِلًا: يَا رَبِّ، وَقَوْلُهُ: وَمَطْعَمُهُ، وَمَشْرَبُهُ، وَمَلْبَسُهُ، وَغُذِّيَ، حَالٌ مِنْ فَاعِلِ قَائِلًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْحَالَاتِ دَالَّةٌ عَلَى غَايَةِ اسْتِحْقَاقِ الدَّاعِي لِلْإِجَابَةِ، وَدَلَّتْ تِلْكَ الْخَيْبَةُ عَلَى أَنَّ الصَّارِفَ قَوِيٌّ وَالْحَاجِزَ مَانِعٌ شَدِيدٌ. اهـ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَكُلُّ هَذِهِ الْحَالَاتِ تَوَسُّعٌ لِخُرُوجِ مَطْعَمِهِ الْخَ. فَإِنَّهَا حَالَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الدَّاعِي عَدَمَ الْإِجَابَةِ كَمَا قَالَ: (فَأَنَّى) : أَيْ: فَكَيْفَ أَوْ فَمِنْ أَيْنَ؟ وَالِاسْتِفْهَامُ لِلِاسْتِبْعَادِ مِنْ أَنْ (يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟) : أَيْ: لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَوْ لِأَجْلِ مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ. قَالَ الْأَشْرَفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ: وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ حِلَّ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ مِمَّا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إِجَابَةُ الدُّعَاءِ، وَلِذَا قِيلَ: إِنَّ لِلدُّعَاءِ خَبًّا حِينَ أَكَلَ الْحَلَالَ وَصَدَقَ الْمَقَالَ. قَالَ التُّورِبِشْتِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى: أَرَادَ بِالرَّجُلِ الْحَاجَّ الَّذِي أَثَّرَ فِيهِ السَّفَرُ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْجَهْدُ، وَأَصَابَهُ الشَّعَثُ، وَعَلَاهُ الْغَبَرَةُ فَطَفِقَ يَدْعُو اللَّهَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُمَا مِنْ مَظَانِّ الْإِجَابَةِ، فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُ، وَلَا يُعْبَأُ بِبُؤْسِهِ وَشَقَائِهِ لِأَنَّهُ مُلْتَبِسٌ بِالْحَرَامِ صَارِفُ النَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: فَإِذَا كَانَ حَالُ الْحَاجِّ الَّذِي هُوَ سَبِيلُ اللَّهِ هَذَا فَمَا بَالُ غَيْرِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ أَمْرُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِعَبْدٍ أَخَذَ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغَبَّرَةٍ قَدَمَاهُ» ". اهـ