قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: هُمَا صِفَتَانِ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى قُلُوبِ أَهْلِ الْعِرْفَانِ، فَإِذَا غَلَبَ الْخَوْفُ انْقَبَضَ، وَإِذَا غَلَبَ الرَّجَاءُ انْبَسَطَ. وَيُحْكَى عَنِ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ قَالَ: الْخَوْفُ يَقْبِضُنِي، وَالرَّجَاءُ يَبْسُطُنِي، وَالْحَقُّ يَجْمَعُنِي، وَالْحَقِيقَةُ تُفَرِّقُنِي، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُوحِشُنِي غَيْرُ مُؤْنِسُنِي، ثُمَّ قَالَ: وَالْقَبْضُ يُوجِبُ إِيحَاشَهُ وَالْبَسْطُ يُوجِبُ إِينَاسَهُ اهـ. وَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنَّ يَجْتَنِبَ الضَّجَرَ حَالَ قَبْضِهِ، وَيَتْرُكَ الِانْبِسَاطَ وَتَرْكَ الْأَدَبِ وَقْتَ بَسْطِهِ، وَمِنْ هَذَا خَشِيَ الْأَكَابِرُ.
" الْخَافِضُ، الرَّافِعُ ": أَيْ: يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، أَوْ يَخْفِضُ الْكُفَّارَ بِالْخِزْيِ وَالصَّغَارِ، وَيَرْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ بِالنُّصْرَةِ وَالِاعْتِبَارِ، أَوْ يَخْفِضُ أَعْدَاءَهُ بِالْإِبْعَادِ، وَيَرْفَعُ أَوْلِيَاءَهُ بِالْإِسْعَادِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ لَا تَثِقَ بِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِكَ، وَلَا تَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عُلُومِكَ وَأَعْمَالِكَ، وَالتَّخَلُّقُ بِهِمَا أَنْ تَخْفِضَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِخَفْضِهِ كَالنَّفْسِ وَالْهَوَى، وَتَرْفَعَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِرَفْعِهِ كَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ، رُؤِيَ رَجُلٌ فِي الْهَوَاءِ فَقِيلَ لَهُ: بِمَ هَذَا؟ فَقَالَ: جَعَلْتُ هَوَايَ تَحْتَ قَدَمِي فَسَخَّرَ اللَّهُ لِيَ الْهَوَاءَ.
(الْمُعِزُّ، الْمُذِلُّ) : الْإِعْزَازُ جَعْلُ الشَّيْءِ ذَا كَمَالٍ يَصِيرُ بِسَبَبِهِ مَرْغُوبًا إِلَيْهِ قَلِيلَ الْمِثَالِ، وَالْإِذْلَالُ ضِدُّهُ، وَالْإِعْزَازُ الْحَقِيقِيُّ تَخْلِيصُ الْمَرْءِ عَنْ ذُلِّ الْحَاجَةِ، وَاتِّبَاعِ الشَّهْوَةِ، وَجَعْلُهُ غَالِبًا عَلَى مُرَادِهِ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: الْمُعِزُّ الَّذِي أَعَزَّ أَوْلِيَاءَهُ بِعِصْمَتِهِ، ثُمَّ غَفَرَ لَهُمْ بِرَحْمَتِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى دَارِ كَرَامَتِهِ، ثُمَّ أَكْرَمَهُمْ بِرُؤْيَتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ، وَالْمُذِلُّ الَّذِي أَذَلَّ أَعْدَاءَهُ بِحِرْمَانِ مَعْرِفَتِهِ، وَارْتِكَابِ مُخَالَفَتِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُمْ إِلَى دَارِ عُقُوبَتِهِ، وَأَهَانَهُمْ بِطَرْدِهِ وَلَعْنَتِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنَّكَ لَمْ تَتَعَزَّزْ بِغَيْرِهِ، وَلَمْ تَتَذَلَّلْ لِسِوَاهُ، وَأَنْ تُعِزَّ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلَّ الْبَاطِلَ وَحِزْبَهُ، وَتَسْأَلَ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِمُوجِبَاتِ عِزِّهِ، وَتَسْتَعِيذَ بِهِ مِنْ قَطِيعَةِ ذُلِّهِ.
وَقَالَ الْمَشَايِخُ: مَا أَعَزَّ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ مَا يُرْشِدُهُ إِلَى ذُلِّ نَفْسِهِ، وَمَا أَذَلَّ اللَّهُ عَبْدًا بِمِثْلِ مَا يَرِدُ إِلَى تَوَهُّمِ عِزٍّ. قِيلَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26] تُعِزُّ كُلَّ قَوْمٍ مِنَ الزُّهَّادِ، وَالْعُبَّادِ، وَالْمُرِيدِينَ، وَالْعَارِفِينَ، وَالْمُحِبِّينَ، وَالْمُوَحِّدِينَ، بِمَا يَلِيقُ بِمَقَامِهِمْ، فَاللَّهُ يُعِزُّ الزَّاهِدَ بِعُزُوفِ نَفْسِهِ عَنِ الدُّنْيَا، وَيُعِزُّ الْعَابِدَ بِخِدْمَةِ الْمَوْلَى وَتَرْكِ الْهَوَى، وَيُعِزُّ الْمُرِيدِينَ بِزَهَادَتِهِمْ عَنْ صُحْبَةِ الْوَرَى، وَيُعِزُّ الْعَارِفَ بِتَأْهِيلِهِ لِمَقَامِ النَّجْوَى، وَيُعِزُّ الْمُحِبَّ بِالْكَشْفِ وَاللِّقَاءِ وَبِالْغِنَى عَنْ كُلِّ مَا سِوَى، وَيُعِزُّ الْمُوَحِّدَ بِشُهُودِ جَلَالَةِ مَنْ لَهُ الْبَقَاءُ وَالْعَظَمَةُ وَالْبَهَاءُ.
(السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) : السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، إِدْرَاكُ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ انْكِشَافًا تَامًّا، فَهُمَا صِفَتَانِ مِنْ صِفَاتِ ذَاتِهِ الثَّمَانِيَةِ، وَهُمَا غَيْرُ صِفَةِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُمَا مُخْتَصَّتَانِ بِإِدْرَاكِ الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ وَالْعِلْمُ يَعُمُّهُمَا وَغَيْرَهَا كَمَا سَبَقَ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: إِنَّ الِانْكِشَافَ بِهِمَا أَتَمُّ فَنُقْصَانٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُمَا يَرْجِعَانِ إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ وَلَيْسَتَا زَائِدَتَيْنِ عَلَيْهِ، لِمَا قَرَّرُوا أَنَّ الرُّؤْيَةَ نَوْعُ عِلْمٍ، وَالسَّمْعُ كَذَلِكَ. غَايَتُهُ أَنَّهُمَا وَإِنْ رَجَعَا إِلَى صِفَةِ الْعِلْمِ بِمَعْنَى الْإِدْرَاكِ، فَإِثْبَاتُ صِفَةِ الْعِلْمِ إِجْمَالًا لَا يُغْنِي فِي الْعَقِيدَةِ عَنْ إِثْبَاتِهِمَا تَفْصِيلًا بِلَفْظِهِمَا الْوَارِدَيْنِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، لِأَنَّا مُتَعَبّدُونَ بِمَا وَرَدَ فِيهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْحَمْلِ مَا فِي شَرْحِ الْمَوَاقِفِ مِنْ أَنَّهُمَا صِفَتَانِ زَائِدَتَانِ عَلَى الْعِلْمِ، فَيُقَالُ: لَمَّا وَرَدَ النَّقْلُ بِهِمَا آمَنَّا بِذَلِكَ، وَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ بِالْآلَتَيْنِ الْمَعْرُوفَتَيْنِ، وَاعْتَرَفْنَا بِعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِمَا.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَجَرٍ: فَمَنْ جَعَلَهُمَا مُرَادِفَيْنِ لِلْعِلْمِ، فَقَدْ وَهِمَ، فَمُسَلَّمٌ إِذِ الْعِلْمُ أَعَمُّ، وَمَا أَظُنُّ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَوَهَّمُ تَرَادُفَهُمَا لَهُ، لَا فِي حَقِّ اللَّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ، نَعَمْ أَتَمِّيَّتُهَا مَقْصُورَةٌ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِينَ دُونَ الْخَالِقِ، بَلْ لَا يَتَحَقَّقُ الْعِلْمُ الْيَقِينُ فِي حَقِّنَا إِلَّا بِالِانْتِهَاءِ إِلَى الْحِسِّ، فَمَنْ لَمْ يَذُقْ لَمْ يَعْرِفْ، وَأَمَّا عِلْمُهُ تَعَالَى فَمُحِيطٌ بِالْمَرْئِيَّاتِ وَالْمَسْمُوعَاتِ، وَالْمُرِّيَّاتِ وَالْحُلْوِيَّاتِ، وَالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ، مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ فِي الصِّفَاتِ، ثُمَّ حَظُّكَ مِنَ الِاسْمَيْنِ الْمُعَظَّمَيْنِ، وَالْوَصْفَيْنِ الْمُكَرَّمَيْنِ أَنْ تَتَحَقَّقَ أَنَّكَ بِمَسْمَعٍ وَمَرْأًى مِنْهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْكَ، وَنَاظِرٌ إِلَيْكَ، رَقِيبٌ لِجَمِيعِ أَحْوَالِكَ مِنْ أَقْوَالِكَ وَأَفْعَالِكَ، فَاحْذَرْ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: مَنْ أَخْفَى عَنْ غَيْرِ اللَّهِ مَا لَا يُخْفِيهِ عَنِ اللَّهِ، فَقَدِ اسْتَهَانَ بِنَظَرِ اللَّهِ، فَمَنْ قَارَفَ مَعْصِيَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ، فَمَا أَجْرَأَهُ وَمَا أَجْسَرَهُ، وَمَا ظَنَّ أَنَّ اللَّهَ لَا يَرَاهُ، فَمَا أَكْفَرَهُ وَمَا أَكْفَرَهُ، وَلِذَا قِيلَ: إِذَا عَصَيْتَ مَوْلَاكَ فَاعْصِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَرَاكَ، وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمَقَالِ تَعْلِيقٌ بِالْمُحَالِ، وَمِنْ أَلْطَافِ اللَّهِ بِعِبَادِهِ أَنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ سَمْعَهُمْ وَبَصَرَهُمْ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ.