وَمِنَ الْآدَابِ أَيْضًا: أَنْ تَكْتَفِيَ بِسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ تَعَالَى عَنِ انْتِقَامِكَ وَانْتِصَارِكَ لِنَفْسِكَ.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} [الحجر: 97] ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ سَلَّاهُ وَخَفَّفَ عَلَيْهِ بِحَمْلِ أَثْقَالِ بَلْوَاهُ حَيْثُ أَثْقَالُ بَلْوَاهُ حَيْثُ أَشْغَلَهُ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر: 98] . . إِلَخْ.

أَيْ: فَاتَّصِفْ أَنْتَ بِمَدْحِنَا وَثَنَائِنَا، وَسُجُودِنَا وَشُهُودِنَا، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا تَأَذَّيْتَ بِسَمَاعِ السُّوءِ مِنْهُمْ، فَاسْتَرْوِحْ بِرَوْحِ ثَنَائِكَ عَلَيْنَا.

(الْحَكَمُ) : أَيِ: الْحَاكِمُ الَّذِي لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، فَمَرْجِعُهُ إِمَّا إِلَى الْقَوْلِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُبَيِّنُ لِكُلِّ نَفْسٍ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِمَّا إِلَى الْمُمَيِّزِ بَيْنَ الشَّقِيِّ وَالسَّعِيدِ بِالْعِقَابِ وَالْإِثَابَةِ، وَإِمَّا إِلَى الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَى ذَلِكَ بِنَصْبِ الدَّلَائِلِ وَالْآيَاتِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ الْحَكَمُ اسْتَسْلَمْتَ لِحُكْمِهِ، وَانْقَدْتَ لِأَمْرِهِ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْضَ بِقَضَائِهِ اخْتِيَارًا أَمْضَاهُ فِيكَ إِجْبَارًا، وَإِنْ رَضِيتَ بِهِ طَوْعًا قَلْبِيًّا لَطَفَ بِكَ لُطْفًا خَفِيًّا، وَتَعِيشُ رَاضِيًا مَرْضِيًّا، وَلَا تَحْتَاجُ أَنْ تُحَاكِمَ إِلَى غَيْرِهِ حَيْثُ حَصَلَ لَكَ الرِّضَا بِحُكْمِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: ( «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ» ) فَالتَّقَرُّبُ بِهِ تَعَلُّقًا بِالشَّكْوَى فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَيْهِ، وَبِالِاعْتِمَادِ فِي كُلِّ أَمْرٍ عَلَيْهِ.

وَتَخَلُّقًا أَنْ يَكُونَ حُكْمًا بَيْنَ قَلْبِكَ وَنَفْسِكَ.

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْأَزَلِ لِعِبَادِهِ بِمَا شَاءَ، فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، وَقَرِيبٌ وَبَعِيدٌ، فَمَنْ حَكَمَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ لَا يَشْقَى أَبَدًا، وَمَنْ حَكَمَ لَهُ بِالشَّقَاوَةِ لَا يَسْعَدُ أَبَدًا، وَلِذَا قَالُوا: مَنْ أَقْصَتْهُ السَّوَابِقُ لَمْ تُدِنْهِ الْوَسَائِلُ. وَقَالُوا: مَنْ قَعَدَ بِهِ جِدُّهُ لَمْ يَنْهَضْ بِهِ جَدُّهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ النَّاسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: أَصْحَابُ سَوَابِقَ، فَتَكُونُ فِكْرَتُهُمْ أَبَدًا فِيمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ الرَّبِّ فِي الْأَزَلِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْحُكْمَ الْأَزَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِاكْتِسَابِ الْعَبْدِ. وَالثَّانِي: أَصْحَابُ الْعَوَاقِبِ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا يُخْتَمُ بِهِ أَمْرُهُمْ، فَإِنَّ الْأُمُورَ بِخَوَاتِيمِهَا، وَالْعَاقِبَةُ مَسْتُورَةٌ، وَلِهَذَا قِيلَ: لَا يَغُرَّنَّكَ صَفَاءُ الْأَوْقَاتِ، فَإِنَّ تَحْتَهَا غَوَامِضَ الْآفَاتِ، فَكَمْ مِنْ مُرِيدٍ لَاحَتْ عَلَيْهِ أَنْوَارُ الْإِرَادَةِ، وَظَهَرَتْ عَلَيْهِ آثَارُ السَّعَادَةِ، وَانْتَشَرَ صِيتُهُ فِي الْآفَاقِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَوْلِيَائِهِ بِالْإِطْلَاقِ، بُدِّلَ بِالْوَحْشَةِ صَفَاؤُهُ وَبِالْغَيْبَةِ ضِيَاؤُهُ وَأَنْشَدُوا:

أَحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالْأَيَّامِ إِذْ حَسُنَتْ ... وَلَمْ تَخَفْ سُوءَ مَا يَأْتِي بِهِ الْقَدَرُ

وَسَالَمَتْكَ اللَّيَالِي فَاغْتَرَرْتَ بِهَا ... وَعِنْدَ صَفْوِ اللَّيَالِي يَحْدُثُ الْكَدَرُ

وَالثَّالِثُ: أَصْحَابُ الْوَقْتِ وَهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ بِالتَّفَكُّرِ فِي السَّوَابِقِ وَاللَّوَاحِقِ، بَلْ بِمُرَاعَاةِ وَقَتِهِ، وَأَدَاءِ مَا كُلِّفُوا لَهُ مِنْ حُكْمِهِ، وَقِيلَ: الْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ. وَالرَّابِعُ: أَصْحَابُ الشُّهُودِ، وَهُمُ الَّذِينَ غَلَبَ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ الْحَقِّ، فَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِشُهُودِ الْحَقِّ عَنْ مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ لَا يَتَفَرَّغُونَ إِلَى مُرَاعَاةِ وَقْتٍ وَزَمَانٍ، وَلَا يَتَطَلَّعُونَ لِشُهُودِ حِينٍ: وَأَوَانٍ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ الْمَنْعُ، وَسَمَّى الْعُلُومَ حِكَمًا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنْ شِيَمِ الْجُهَّالِ.

(الْعَدْلُ) : أَيِ: الْبَالِغُ فِي الْعَدَالَةِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَفْعَلُ إِلَّا مَا لَهُ فِعْلُهُ، وَقِيلَ: الْعَدْلُ خِلَافُ الْجَوْرِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الصِّفَةِ، وَهُوَ الْعَادِلُ، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُسَمَّى نَفْسَهُ عَدْلًا، فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الْبَرِئُ مِنَ الظُّلْمِ فِي أَحْكَامِهِ، الْمُنَزَّهُ عَنِ الْجَوْرِ فِي أَفْعَالِهِ، وَحَظُّكَ مِنْهُ أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ عَدْلٌ فِي أُقْضِيَتِهِ، فَلَا تَجِدُ فِي نَفْسِكَ جَزَعًا مِنْ أَحْكَامِهِ، وَلَا حَرَجًا مِنْ نَقْضِهِ وَإِبْرَامِهِ، فَتَسْتَرِيحَ بِالِاسْتِسْلَامِ إِلَيْهِ، وَبِالتَّوَكُّلِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ، وَتَرَى الْكُلَّ مِنْهُ حَقًّا وَعَدْلًا، وَتَسْتَعْمِلُ كُلَّ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ مِنْهُ فِيمَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ شَرْعًا وَعَقْلًا، وَتَخَافُ سَطْوَةَ عَدْلِهِ، وَتَرْجُو رَأْفَةَ فَضْلِهِ، وَلَا تَأْمَنُ مِنْ مَكْرِهِ، وَلَا تَيْأَسُ مِنْ فَضْلِهِ، وَتَجْتَنِبُ فِي مَجَامِعِ أُمُورِكَ طَرَفَيِ الْإِفْرَاطِ وَالتَّفْرِيطِ، كَالْفُجُورِ وَالْخُمُودِ فِي الْأَفْعَالِ الشَّهَوِيَّةِ، وَالتَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ فِي الْأَفْعَالِ الْغَضَبِيَّةِ، وَتُلَازِمُ أَوْسَاطَهَا الَّتِي هِيَ الْعِفَّةُ وَالشَّجَاعَةُ، وَالْحِكْمَةُ الْمُعَبَّرُ عَنْ مَجْمُوعِهَا بِالْعَدَالَةِ لِتَنْدَرِجَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015