(الرَّزَّاقُ) : أَيْ: خَالِقُ الْأَرْزَاقِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا. وَالرِّزْقُ هُوَ الْمُنْتَفَعُ بِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا أَوْ مَحْظُورًا، وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الرِّزْقُ هُوَ الْمِلْكُ وَفَسَادُهُ ظَاهِرٌ طَرْدًا وَعَكْسًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَى اللَّهِ مِلْكُهُ، وَلَيْسَ رِزْقًا لَهُ وَأَمَّا الثَّانِي: فَلِأَنْ يَدِرَّ عَلَى الْبَهَائِمِ رِزْقَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَلَيْسَ مِلْكًا لَهَا، وَهُوَ نَوْعَانِ: ظَاهِرٌ لِلْأَبْدَانِ كَالْأَقْوَاتِ وَالْأَمْتِعَةِ، وَبَاطِنٌ لِلْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ كَالْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الرَّزَّاقُ مَنْ رَزَقَ الْأَشْبَاحَ فَوَائِدَ لُطْفِهِ، وَالْأَرْوَاحَ عَوَائِدَ كَشْفِهِ، وَقَالَ الْآخَرُ: الرَّزَّاقُ مَنْ غَذَّى نُفُوسَ الْأَبْرَارِ بِتَوْفِيقِهِ، وَجَلَا قُلُوبَ الْأَخْيَارِ بِتَصْدِيقِهِ، وَحَظُّ الْعَارِفِ مِنْهُ أَنْ يَتَحَقَّقَ مَعْنَاهُ لِيَتَيَقَّنَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ إِلَّا اللَّهُ، فَلَا يَنْظُرُ الرِّزْقَ وَلَا يَتَوَقَّعُهُ إِلَّا مِنْهُ، فَيَكِلُ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، وَلَا يَتَوَكَّلُ فِيهِ إِلَّا عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ يَدَهُ خِزَانَةَ رَبِّهِ، وَلِسَانَهُ وَصْلَةً بَيْنَ اللَّهِ وَخَلْقِهِ فِي وُصُولِ الْأَرْزَاقِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْجُسْمَانِيَّةِ إِلَيْهِمْ بِالْإِرْفَادِ وَالتَّعْلِيمِ، وَصَرْفِ الْمَالِ وَدُعَاءِ الْخَيْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ لِيَنَالَ حَظًّا وَافِرًا مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ أَفْرَدَهُ بِالْقَصْدِ إِلَيْهِ وَتَقَرَّبَ إِلَيْهِ بِدَوَامِ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: مِنْ أَيْنَ تَأْكُلُ؟ فَقَالَ: مُنْذُ عَرَفْتُ خَالِقِي مَا شَكَكْتُ فِي رِزْقِي، وَقِيلَ لِعَارِفٍ: إِيشِ الْقُوتُ؟ فَقَالَ: ذِكْرُ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَقَدْ يَقَعُ لِبَعْضِ الْعَارِفِينَ أَنْ يَسْأَلَ الْحَقِيرَ مِنَ الْحَقِيرِ لِيُعْطِيَهُ الْخَطِيرَ. قَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة: 245] كَمَا وَقَعَ لِلشِّبْلِيِّ أَنَّهُ أَرْسَلَ لِغَنِيٍّ أَنِ ابْعَثْ إِلَيْنَا شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: سَلْ دُنْيَاكَ مِنْ مَوْلَاكَ؟ فَأَجَابَهُ: بِأَنَّ الدُّنْيَا حَقِيرَةٌ وَأَنْتَ حَقِيرٌ، وَإِنَّمَا أَسْأَلُ الْحَقِيرَ مِنَ الْحَقِيرِ، وَلَا أَطْلُبُ مِنْ مَوْلَايَ غَيْرَ مَوْلَايَ، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا وَرَدَ: «يَا مُوسَى سَلْنِي حَتَّى مِلْحَ عَجِينِكَ» ، لِأَنَّ سُؤَالَ الْخَلْقِ فِيمَا أَجْرَى عَلَى أَيْدِيهِمْ لَا يُنَافِي سُؤَالَهُ تَعَالَى فِي تَيْسِيرِ أَسْبَابِ وُصُولِ ذَلِكَ.
(الْعَلِيمُ) : أَيِ: الْعَالِمُ الْبَالِغُ فِي الْعِلْمِ الْمُحِيطُ عِلْمُهُ، السَّابِقُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، دَقِيقِهَا وَجَلِيلِهَا، كُلِّيَّاتِهَا وَجُزْئِيَّاتِهَا، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ ذَاتَهُ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ، وَيَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا لَا يَكُونُ مِنَ الْجَائِزَاتِ وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، وَيَعْلَمُ الْمُسْتَحِيلَ مِنْ حَيْثُ اسْتِحَالَتُهُ وَانْتِفَاءُ كَوْنِهِ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ، مِنْ ثَمَّةَ قَالَ عَزَّ قَائِلًا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلِذَا قِيلَ مَا مِنْ عَامٍّ إِلَّا وَخُصَّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] وَأَمْثَالِهِ قِيلَ: هَذَا أَيْضًا عَامٌّ ثُمَّ خُصَّ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ: مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِحَالَتِهِ صَبَرَ عَلَى بَلِيَّتِهِ وَشَكَرَ عَلَى عَطِيَّتِهِ وَاسْتَغْفَرَ مِنْ خَطِيئَتِهِ.
وَقَالَ الْقُشَيْرِيُّ: مَنْ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِالْخَفِيَّاتِ خَبِيرٌ بِمَا فِي الضَّمَائِرِ مِنَ الْخَطَرَاتِ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ، فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ مَوَاضِعِ اطِّلَاعِهِ، وَيَرْعَوِيَ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِجَمِيلِ سَتْرِهِ، وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ إِنْ لَمْ تَعْلَمُوا أَنِّي أَرَاكُمْ، فَالْخَلَلُ فِي إِيمَانِكُمْ، وَإِنْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَرَاكُمْ فَلِمَ جَعَلْتُمُونِي أَهْوَنَ النَّاظِرِينَ إِلَيْكُمْ؟ .
(الْقَابِضُ، الْبَاسِطُ) : أَيْ: مُضَيِّقُ الرِّزْقِ وَغَيْرُهُ عَلَى مَنْ شَاءَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ وَمُوَسِّعُهُ. وَقِيلَ: قَابِضُ الْأَرْوَاحِ عَنِ الْأَجْسَادِ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَنَاشِرُهَا فِيهَا عِنْدَ الْحَيَاةِ، وَهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَعْنَاهُمَا أَنَّهُ يَقْبِضُ الْقُلُوبَ، وَيَبْسُطُهَا تَارَةً بِالضَّلَالَةِ وَالْهُدَى، وَأُخْرَى بِالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَقِيلَ: الْقَابِضُ الَّذِي يُكَاشِفُكَ بِجَلَالِهِ فَيُفْنِيكَ، وَيُكَاشِفُكَ بِجَمَالِهِ فَيُغْنِيكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] أَيْ: فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْأَشْبَاحِ وَالْأَرْوَاحِ، إِذَا قَبَضَ فَلَا طَاقَةَ، وَإِذَا بَسَطَ فَلَا فَاقَةَ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ إِطْلَاقُهُمَا مَعًا لِيَدُلَّا عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الْحِكْمَةِ، وَحَظُّكَ مِنْهُمَا أَنْ تُرَاقِبَ الْحَالَيْنِ، فَلَا تَعِيبُ أَحَدًا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا تَسْكُنُ إِلَيْهِ فِيهِ إِقْبَالٌ وَلَا إِدْبَارٌ، وَلَا تَيْأَسُ مِنْهُ فِي بَلَاءٍ، وَلَا تَأْمَنُ عَلَى عَطَاءٍ وَتَرَى الْقَبْضَ عَدْلًا مِنْهُ فَتَصْبِرُ، وَالْبَسْطَ فَضْلًا فَتَشْكُرُ، فَتَكُونُ رَاضِيًا بِقَضَائِهِ حَالًا وَمَآلًا.