وكان مدرّسا بها ونائب الحاكم، فذاق من هذا الطريق شيئا على أيدينا، فقال:
يا سيدى، أأترك ما أنا فيه وأتفرغ لصحبتك؟ فقلت له: ليس هذا شأننا، ولكن امكث فيما أقامك الله، وما قسم لك على أيدينا هو إليك واصل. ثم قال: وهكذا شأن الصديقين، لا يخرجون عن شىء حتى يكون الحقّ هو الذي يتولى إخراجهم. فخرجت من عنده وقد غسل الله تلك الخواطر من قلبى، وكأنها كانت ثوبا نزعته، ورضيت عن الله فيما أقامنى فيه» .
والطور الثالث من حياته يبدأ من وقت ارتحاله من الإسكندرية ليقيم بالقاهرة، وينتهى بوفاته سنة 709 هـ، وهو طور نضجه واكتماله من الناحيتين:
الفقهية والصوفية، والإفادة منهما فى التدريس. وفى هذه المرحلة من حياته فرّق ابن عطاء الله بين العزلة والخلوة، وأعطانا وصفا مميزا لكل منهما. ويرى ابن عطاء ضرورة اصطناع العزلة عن الناس والخلوة فى مكان بعيد، وفى ذلك يقول الغزالى فى إحياء علوم الدين: «والذين يستندون فى هذا المسلك إلى أساس من اعتزال النبي صلى الله عليه وسلم وتحنثه فى غار حراء قبل نزول الوحى، حتى صفت نفسه وتهيّأ لنور النبوّة» . والعزلة عند ابن عطاء تعنى الانقطاع المعنوى لا الحقيقى عن الخلق، بحيث يكون السالك مراقبا نفسه على الدوام، ومحاذرا أن يشغل ذهنه بالعالم، فإذا أحكم الصوفى عزلته، وألفت نفسه الوحدة دخل الخلوة.
ويعرّف الخلوة بأنها وسيلة للوصول إلى سر الحق، فهى تبتّل إلى الله، وانقطاع عن غيره- سبحانه وتعالى. ويصف ابن عطاء الله البيت الذي يختلى فيه المتصوف فيقول: «فأمّا بيت الخلوة فله هيئة خاصة، فيكون ارتفاعه قدر قامة الرجل، وطوله قدر سجوده، وعرضه قدر جلسته، ولا يكون فيه ثقب ينفذ الضوء منه إلى الخلوة، وأن يكون بعيدا عن الأصوات، وبابه وثيقا قصيرا فى دار معمورة بالناس» «1» .