فدخلنا، وإذا بمجانين يتقلَّبون في أقذارهم، وبينهم شابٌّ نَظيف، عليه ثياب نقيَّة، وهو مَشدودٌ بسِلْسِلة إلى سارية، فلمَّا رآنا قال: مَرْحبًا بالوَفْد، حيَّاكم الله بالتَّحية، وقرَّب ما نأى من داركم، وجمع الله شَمْلَكم، بأبي أنتم من أين؟ فقلتُ: وأنت، فأمتع الله الخاصَّة والعامَّة بقُربك، وآنسَ جماعةَ ذوي المروءة بشَخْصك، وجعلَنا فداك، نحن من العراق، فقال: أحسن الله عن جَميل القول جزاءكم، وتولَّى عنِّي مكافأتكم، بأبي العراقُ وأهلهُ، فقلنا: ما تصنع بهذا المكان الذي غيرُه أَلْيَقُ بك؟ (?) فأنشد: [من السريع]

اللهُ يَعلَم أنَّني كَمِدُ ... لا أستطيعُ أبثُّ ما أَجِدُ

روحان لي رُوحٌ تضمَّنها ... بَلَدٌ وأخرى حازَها بَلَدُ

وأرى المُقِيمةَ ليس يَنْفَعها ... صَبْرٌ ولا يَقوى لها جَلَدُ

وأظنُّ غائبتي كشاهدتي ... بمكانِها تَجِدُ الذي أَجِدُ

وبكى وبَكَينا، فقلنا له: زِدْنا، فقال: [من المنسرح]

إنْ وَصَفوني فناحِلُ الجَسَدِ ... أو فتَّشوني فكَمِدُ الكَبِدِ

أضعفَ جسمي وزاد في سَقَمي ... أنْ لستُ أشكو الهوى إلى أحَدِ

كأن قلبي إذا ذكرتُهُم ... فَريسَةٌ بين مِخْلَبَي أسَدِ

ما أَقْتَلَ البَيْنَ للنُّفوس وما ... أوْجَعَ قلبَ المحبِّ بالكَمَدِ

فقلت له: والله إنَّك لظريف فزِدْنا، فأنشد: [من البسيط]

شَوقٌ وبَيْنٌ وتوديعٌ ومُرتَحَلٌ ... أيُّ العيون على ذا ليس تَنْهَمِلُ

والله ما جَلَدي من بَعدِهم جَلَدٌ ... ولا اختِزانُ دُموعي بعدَهم بَخَلُ

بلى وحُرْمَةِ ما خلَّفنَ من رَمَقي ... قلبي إليهن مُشتاقٌ ومُخْتَبَلُ

وَدِدْتُ أنَّ البحارَ السَّبعَ لي مَدَدٌ ... وأنَّ جسمي عيونٌ كلُّها هَمَلُ

وأنَّ لي بَدلًا من كلِّ جارحة ... في كلِّ جارحة يوم النَّوى مُقَلُ

لا دَرَّ درُّ النَّوى لو صادَفَتْ جَبَلًا ... لانهدَّ منها وَشيكًا ذلك الجَبلُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015