فأصابه عقيبَ هذا القولِ صرع، فكان يُصرع في اليوم مراتٍ إلى أن مات، ولم يبلغْ شهرًا مثلَه. ولمّا مات، حزن عليه المأمونُ حزنًا كاد يَذهب بعقله، وخرج في جنازته حافيًا، وصلى عليه ونزل في قبره، وامتنع من الطعام أيامًا، وقدم عليه المعزُّون من الآفاق، وقال أحمدُ بن أبي دؤاد: دخلتُ على المأمون [يومًا] وهو يبكي ويقول: [من الطَّويل]
سأبكيك ما فاضت دموعي فانْ تَغِضْ ... فحسبُك منِّي ما تُجِنُّ الجوانحُ
كأنْ لم يمت حيٌّ سواك ولم تَقُم ... على أحدٍ إلَّا عليك النّوائح (?)
ثم التفت إليَّ وقال: هيه يَا أَحْمد، فتمثَّلتُ بقول عبدة بنِ الطبيب: [من الطَّويل]
عليك سلامُ اللهِ قيسَ بنَ عاصمٍ ... ورحمتُه ما شاء أن يترحَّما
تحيَّةَ مَن أوليتَه منك نعمةً ... إذا زار عن شَحْطٍ (?) بلادَك سَلَّما
فما كان قيسٌ هُلْكُه هُلكَ واحدٍ ... ولكنه بُنيانُ قومٍ تهدَّما
فبكى بكاءً شديدًا، وكان عنده عَمرو بنُ مَسعدةَ كاتبُه، فقال: هيه يَا عَمرو، فأنشد: [من الكامل]
بكُّوا حذيفةَ لن تُبَكُّوا مثلَه ... حتَّى تعودَ قبائلٌ لم تُخْلَقِ (?)
وإذا بعَرِيبَ قد دخلت، فقال لها: نُوحي، فناحت ومعها جواريها، فقالت: ] من الطَّويل]
كذا فلْيَجِلَّ الخطبُ ولْيَفدح الأمرُ ... فليس لعينٍ لم يَفض ماؤها عُذرُ
كأنَّ بني العبَّاسِ يومَ فراقِه ... نجومُ سماءٍ خرَّ من بينها البدرُ
فبكى المأمونُ حتَّى قلت: ذَهَبَتْ نفْسُه. [ولأبي عيسى واقعةٌ نذكرها في ترجمة ابنِ